فصل: كِتَاب الْوُضُوءِ

صباحاً 12 :49
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
17
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ

- فيه‏:‏ أَبُو جُحَيْفَةَ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَلِىِّ‏:‏ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لا، إِلا كِتَابُ اللَّهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ وَمَا فِى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأسِيرِ، وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِى لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ لهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ‏:‏ تمت إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، أَوِ الْقَتْلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُوله وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى-، وذكر الحديث‏.‏

فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ اكْتُبْ لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ تمت اكْتُبُوا لأبِى فُلانٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّى، إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلا أَكْتُبُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، قَالَ‏:‏ تمت ائْتُونِى بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ ‏[‏كِتَابًا‏]‏ لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ-، قَالَ عُمَرُ‏:‏ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ‏:‏ تمت قُومُوا عَنِّى، وَلا يَنْبَغِى عِنْدِى التَّنَازُعُ-، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول أمر بكتابه‏؟‏ فقال‏:‏ تمت اكتبوا لأبى فلان-، وقد كتب على الصحيفة التى قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو‏.‏

وقد كره قوم كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ‏.‏

والقول الأول أولى للآثار الثابته بكتابة العلم‏.‏

ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذى هو أصل العلم، فكتبته الصحابة فى الصحف التى جمع منها المصحف، وكان للنبى صلى الله عليه وسلم كُتَّاب يكتبون الوحى‏.‏

وإنما كره كتابه من كرهه، لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقى منه شىء لنبوِّ طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبى‏:‏ إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو فى الحائط‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فى حديث علىِّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على علىِّ أنه الوصى، وأنه المخصوص بعلم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص به غيره، لقوله ويمينه‏:‏ أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله تعالى، ثم أحل على الفهم الذى الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشىء غير ما هو ممكن فى غيره فصح بهذا وثبت من إقراره على نفسه أنه ليس بوصى للنبى صلى الله عليه وسلم، وقد جاء حديث أبى جحفة عند على لفظ العهد، فقال له‏:‏ هل عهد إليك رسول الله بشىء لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فأجابه بالحديث‏.‏

وحديث ابن عباس يشهد لهذا المعنى، لأنه صلى الله عليه وسلم رَامَ أن يعهد فى مرضه بقوله‏:‏ تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم لا تضلوا بعده- فاختلفوا فترك ذلك، فلو كان عند علىٍّ عهد منه أو وصية لأحال عليها، وكشف أمرها‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم، دخل مكة عنوة، بقوله‏:‏ تمت إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين-، وهو قول الجمهور، وإنما خالفه فى ذلك الشافعى وحده‏.‏

وسيأتى ذكر ذلك فى كتاب الحج عند حديث ابن خطل إن شاء الله‏.‏

وفى قول عمر‏:‏ حسبنا كتاب الله، حين قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم- فيه من فقه عمر وفضله أنه خشى أن يكتب النبى أمورًا ربما عجز عنها فاستحق عليها العقوبة، وإنما قال‏:‏ حسبنا كتاب الله، لقوله‏:‏ ‏(‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، فعلم أن الله تعالى لا يتوفى نبيه حتى يكمل لهم دينهم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، فقنع عمر بهذا، وأراد الترفيه عن النبى صلى الله عليه وسلم، لاشتداد مرضه وغلبة الوجع عليه‏.‏

فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذى أكمل الله فيه الدين، ولم يكتف بذلك ابن عباس، وسيأتى هذا المعنى أيضًا فى باب النهى على التحريم إلا ما يعرف إباحته، فى كتاب الاعتصام، إن شاء الله‏.‏

وفى قوله‏:‏ تمت ائتونى بكتاب أكتب لكم- دليل على أن للإمام أن يوصى عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفى تركه الكتاب إباحة الاجتهاد، لأنه أوكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم‏.‏

باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ‏:‏ اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ‏:‏ تمت سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ‏؟‏ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ‏؟‏ أَيْقِظُوا صواحب الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَة-‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل أن الفتن تكون فى المال، وغيره لقوله‏:‏ تمت ماذ أنزل من الفتن، وماذا فتح من الخزائن-، وكذلك قال حذيفة لعمر‏:‏ فتنة الرجل فى أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت أيقظوا صواحب الحُجَر- يعنى أزواجه للصلاة والاستعاذة مما نزل ليكونوا أولى من استعاذ من فتن الدنيا‏.‏

وفيه‏:‏ أن للرجل أن يوقظ أهله بالليل لذكر الله وللصلاة، ولا سيما عند آية تحدث، أو مأثور رؤيا مخوفة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى رؤيا مخوفة فكرها أن ينفث عن يساره، ويستعيذ بالله من شرها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ تمت رب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة- يحتمل أن تكون الكاسيات مما لا يسترهن من واصف الثياب ورقيقه، فهى كاسية عارية، فربما عوقبت فى الآخرة بالتعرية والفضيحة التى كانت تبتغى فى الدنيا، ويحتمل أن تكون رُبَّ كاسيةٍ فى الدنيا لها المال تكتسى به رفيع الثياب وتكون عارية من الحسنات فى الآخرة، فَنَدَبَهَن إلى الصدقة، وحضهن على ترك السرف فى الدنيا، بأن يأخذن منها بأقل الكفاية ويتصدقن بما سوى ذلك‏.‏

وسيأتى هذا المعنى فى كتاب الصلاة، فى باب تحريض النبى صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، وفى كتاب الفتنة، فى باب لا يأتى زمان إلا الذى بعده شر منه بزيادة فيه، إن شاء الله‏.‏

باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ

- فيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ، صَلَّى الرَّسُولُ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ‏:‏ تمت أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِىُّ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ نَامَ الْغُلَيِّمُ- أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا- ثُمَّ قَامَ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ‏.‏

فيه‏:‏ أن السَّمَر بالعلم والخير مباح، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بعد العشاء أنه لا يبقى ممن على ظهر الأرض أحد إلى رأس مائة سنة، وإنما أراد- والله أعلم- أنه هذه المدة تخترم الجيل الذى هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أنها ليست تطول أعمارهم كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا فى العبادة‏.‏

وقد سمر السلف الصالح فى مذاكرة العلم‏.‏

وقد روى شريك، عن ليث، عن أبى بردة، عن أبى موسى الأشعرى، قال‏:‏ أتيت عمر أكلمه فى حاجة بعد العشاء، فقال‏:‏ هذه الساعة‏؟‏ فقلت‏:‏ إنه شىء من الفقه، قال‏:‏ نعم، فكلمته، فذهبت لأقوم فقال‏:‏ اجلس، فقلت‏:‏ الصلاة، فقال‏:‏ إِنَّا فى صلاة، فلم نزل جلوسًا حتى طلع الفجر‏.‏

حدثنا به محمد بن حسان، قال‏:‏ حدثنا محمد بن معاوية القرشى، قال‏:‏ حدثنا ابن يحيى المروزى، قال‏:‏ حدثنا عاصم بن علقمة، عن شريك‏.‏

واختلف قول مالك فى هذه المسألة، فقال مرة‏:‏ الصلاة أحبُّ إلىَّ من مذاكرة العلم، وقال فى موضع آخر‏:‏ إن العناية بالعلم أفضل إذا صحت النية‏.‏

ويذكر عن سحنون أنه قال‏:‏ يلتزم أثقلهما عليه‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ السَّامِر فى بيت ميمونة، كان ابن عباس‏.‏

وفيه‏:‏ من فضل ابن عباس، وحدقه على صغر سِنِّه أنه رصد الرسول صلى الله عليه وسلم طول ليلته، يدل على ذلك قوله فى الحديث‏:‏ تمت فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال‏:‏ نام الغُلَيِّمُ‏؟‏- مستفهمًا لميمونة، وذكر أنه عاين أفعال النبى صلى الله عليه وسلم كلها طول ليلته، وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث‏.‏

ذكر فى كتاب الدعاء، فى باب الدعاء إذا انتبه من الليل، عن ابن عباس، قال‏:‏ نام النبى صلى الله عليه وسلم عند ميمونة، ثم قام فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر، وقد أبلغ فصلى فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أنى كنت أرصده، فتوضأت فقمت عن يساره‏.‏‏.‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

وقيل‏:‏ إن العباس كان أوصاه بمراعاة النبى صلى الله عليه وسلم، ليطلع على عمله بالليل‏.‏

وإنما يكره السَّمَرُ إذا كان فى غير طاعة، وأحبوا أن يجعلوا الصلاة آخر أعمالهم بالليل، وكرهوا الحديث بعد العتمة، لأن النوم وفاة، فأحبوا أن يناموا على خير أعمالهم‏.‏

وقد كان ابن عمر إذا تكلم أو قضى شيئًا من أموره قبل نومه قام فصلى ثم نام، ولم يفعل بين نومه وصلاته شيئًا‏.‏

وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب الصلاة‏.‏

و تمت الغطيط- صوت النائم، قال صاحب العين‏:‏ غَطّ النائم يَغُطُّ غطيطًا‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ غطيط النائم أعلى من النخير، وكذلك المخنوق والمذبوح‏.‏

وقوله‏:‏ تمت أو خطيطه- شك من المحدث، ولم أجدها عند أهل اللغة بالخاء، والله أعلم‏.‏

باب حِفْظِ الْعِلْمِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ‏:‏ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة 159- 160‏]‏ إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ شَغَلَهُمْ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ شَغَلَهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ لشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ‏:‏ تمت ابْسُطْ رِدَاءَكَ-‏.‏

فَبَسَطْتُهُ، قَالَ‏:‏ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ تمت ضُمَّهُ-‏.‏

فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ حَفِظْتُ مِنْ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ فيه حفظ العلم والدءوب عليه، والمواظبة على طلبه، وهى فضيلة لأبى هريرة، فضله صلى الله عليه وسلم بها بأن قال له‏:‏ تمت ابسط رداءك، ثم قال‏:‏ ضمه-، فما نسى شيئًا بعد‏.‏

وجاء هذا الحديث فى كتاب البيوع، وقال فيه‏:‏ تمت فما نسيتُ من مقالته تلك من شىء-، وهذا من بركة النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ فضل التقلل من الدنيا، وإيثار طلب العلم على طلب المال‏.‏

وفيه‏:‏ أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إذا اضطر إلى ذلك، لاعتذار من شىء، أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر‏.‏

وقوله‏:‏ تمت وأما الآخر لو بثثته قطع هذا البلعوم-، قال المهلب، وأبو الزناد‏:‏ يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عرف به صلى الله عليه وسلم من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش-، وكان أبو هريرة يقول‏:‏ لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشى على نفسه، فلم يُصَرِّح‏.‏

وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه فى التصريح أن يُعَرِّض‏.‏

ولو كانت الأحاديث التى لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها، لأنه قال‏:‏ لولا آيتان فى كتاب الله ما حدثتكم، ثم يتلو‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قول أبى هريرة‏:‏ تمت حفظت من النبى صلى الله عليه وسلم وعاءين-، يعارض قوله‏:‏ تمت ما كان أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب-، فقوله‏:‏ تمت لا أكتب-، خلاف قوله‏:‏ تمت حفظت وعاءين-، لأن الوعاء فى كلام العرب‏:‏ الظرف الذى يجمع فيه الشىء‏.‏

قيل‏:‏ لقوله هذا معنًى صحيح لا يخالف بعضه بعضًا، وذلك أنه يجوز أن يريد أبو هريرة أن الذى حفظ من النبى من السنن التى حدث بها وحملت عنه لو كتبت لاحتملت أن يملأ منها وعاء، وما كتم من أحاديث الفتن لو حدث بها يخشى أن ينقطع منه البلعوم، يحتمل أن تملأ وعاء آخر، ولهذا المعنى قال‏:‏ وعاءين، ولم يقل‏:‏ وعاء واحدًا، لاختلاف حكم المحفوظ فى الإعلام به والستر له‏.‏

وقال ثابت‏:‏ البلعوم هو الحلقوم، وهو مجرى النفس إلى الرئة‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ هو البَلْعَمُ والبُلْعُوم‏.‏

قال ثابت‏:‏ والمرىء مجرى الطعام والشراب إلى المعدة متصل بالحلقوم، وهو المبتلع والمسترط‏.‏

باب الإنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ

- فيه‏:‏ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ‏:‏ تمت اسْتَنْصِتِ النَّاسَ-، فَقَالَ‏:‏ تمت لا تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ-‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ الإنصات للعلماء، والتوقير لهم، لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء، وقد أمر الله عباده المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبى صلى الله عليه وسلم، ولا يجهروا له بالقول خوف حبوط أعمالهم، وكان عبد الرحمن بن مهدى إذا قرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالسكوت، وقرأ‏:‏ ‏(‏لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏، ويتأول أنه يجب من الإنصات والتوقير عند قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما يجب له صلى الله عليه وسلم، فكذلك يجب توقير العلماء والإنصات لهم، لأنهم الذين يحيون سنته، ويقومون بشريعته‏.‏

وقال شريك‏:‏ كان الأعمش لا يتجاوز صوته مجلسهُ إجلالاً للعلم‏.‏

وقال مطرف‏:‏ كان مالك إذا أراد الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم اغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا، ثم تحدث، إجلالاً لحديثه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال‏:‏ كان يُستحب أن لا يُقرأ أحاديث النبى إلا على وضوءٍ‏.‏

قال شعبة‏:‏ كان قتادة لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو على طهارة‏.‏

وحكى مالك عن جعفر بن محمد، مثله‏.‏

وكان الأعمش إذا أراد أن يحدث، وهو على غير وضوء تَيَمَّمَ‏.‏

وقال ابن أبى الزناد‏:‏ ذكر سعيد بن المسيب حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض، فقال‏:‏ أجلسونى، فإنى أُعْظِمُ أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع‏.‏

وقال ابن أبى أويس‏:‏ كان مالك إذا جلس للحديث يقول‏:‏ ليلينى منكم ذووا الأحلام والنهى، فربما قعد الفعنبى عن يمينه، وهذا كله من إجلال النبى صلى الله عليه وسلم وتوقيره‏.‏

باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَن يَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ عن أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ‏:‏ قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ‏:‏ يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ‏؟‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ احْمِلْ حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَثَمَّ هُوَ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ ابْنِ نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ روى عن أُبىّ بن كعب أنه قال‏:‏ أعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقى مع الخضر، وكان ينبغى أن يقول‏:‏ الله أعْلَمُ أىُّ الناس أعلم، لأنه لم يُحِط علمًا بكل عالم فى الدنيا، وقد قالت الملائكة‏:‏ لا علم لنا إلا ما علمتنا‏.‏

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وغيره، فقال‏:‏ لا أدرى حتى أسأل الله تعالى، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏ فيجب على من سئل عما لا يعلم، أن يقول‏:‏ لا أعلم‏.‏

وقد قال مالك‏:‏ جُنَّة العالم لا أدرى، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله‏.‏

قال مالك‏:‏ وكان الصديق يُسأل فيقول‏:‏ لا أدرى، وأحدهم اليوم يأنف أن يقول‏:‏ لا أدرى، فليس المجترئ لحدود الإسلام كالذى يموج ويلعب‏.‏

وقال مالك‏:‏ سمعت ابن هرمز يقول‏:‏ ينبغى للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدرى، حتى يكون أصلاً فى أيديهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَسِيَا حُوتَهُمَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 61‏]‏ إنما نَسِيَهُ يوشع فتى موسى ومتعلمه، فأضيف النسيان إليهما جميعًا، والدليل على أن فتاهُ نسيهُ قوله‏:‏ ‏(‏فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، وإنما الرسل من الإنس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 66‏]‏ لم يسأله موسى عن شىء من دينه، لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها الذى تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر فى السورة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 74‏]‏ روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ تمت كان طبع الغلام كافرًا، ولو أدرك أبويه لأرهقهما طغيانًا وكفرًا-، وهو معنى قوله‏:‏ ‏(‏فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 80‏]‏ فدل أنه لو بلغ لكان كذلك‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى البخارى عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ وكان أبواه مؤمنين، وكان كافرًا فأوجب الله له الكفر فى الحال‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه إنما سماه كافرًا لما يئول إليه أمره لو عاش، وهذا جائز فى اللغة أن يسمى الشىء بما يئول إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏، وإنما يعصر العنب لا الخمر‏.‏

ووجه استباحة القتل لا يعلمهُ إلا الله تعالى ولله أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته، كل ذلك لا اعتراض عليه فيه، لا يُسأل عما يفعل‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفى قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله به خلقه من شريعته ودينه، يجب أن يكون حجة على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى على الخضر خرق السفينة، وقتل الغلام، كان صوابًا فى الظاهر، وكان موسى غير ملوم فى ذلك، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك ومعناه، صار الصواب الذى ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذى ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة فى أنه يجب التسليم لله فى دينه، ولرسوله فى سنته، وبيانه لكتاب ربه، واتهام العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة فى شىء من ذلك، فإن ذلك محنة من الله لعباده، واختبار لهم ليتم البلوى عليهم‏.‏

ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معانى القدر وشبهه، وهذا خطأ منهم، لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الله لا نهاية له، قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَىْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فما أخفاه عنهم فهو سِرُّ الله الذى استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحة للعباد فى إخفائه منهم، والحكمة فى طَيَّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو الحكيم العليم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏ يدل أنه فعله بوحى من الله بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة، منها‏:‏ أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل، لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها‏.‏

وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله، لأن ذلك إخبار عن الغيب‏.‏

وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذى تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحى من الله تعالى‏.‏

وفى هذا الحديث‏:‏ أن الخضر أقام الجدار بيده، وفى كتاب الأنبياء، قال سفيان‏:‏ فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهى تشبه آية الأنبياء‏.‏

وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر‏.‏

وذكر الطبرى عن ابن عباس، قال‏:‏ فكان قول موسى فى الجدار لنفسه، ولطلب شىء من الدنيا، وكان قوله فى السفينة والغلام لله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه‏.‏

وفيه‏:‏ أن العالم قد يكرم، بأن تقضى له حاجة، أو يوهب له شىء، ويجوز له قبول ذلك، لأن الخضر حُمِل بغير أجر وهذا إذا لم يتعرض لذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجوز للعالم، والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه فى ذلك مصلحة‏.‏

وأما قول أُبىِّ بن كعب لنوف‏:‏ تمت كذب عدو الله- فإنما خرج ذلك على طريق الغضب، والإبلاغ فى التقريع، لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة فى الأكثر، وكان نوف قاضيًا‏.‏

وذكر سعيد بن جبير‏:‏ أن نوفًا ابن أخى كعب الأحبار‏.‏

وقوله‏:‏ بغير نول، يرد بغير جُعْلٍ، والنول والنَّال، والنَالة، كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال‏:‏ رجل نال إذا كان كثير النول، ورجلان نالان، وقوم أنوال، كما قالوا‏:‏ رجل مال‏:‏ أى كثير المال، وكبش صاف‏:‏ كثير الصوف، ويقال‏:‏ نلت الرجل أنوله نولا، ونلت الشىء أناله نيلا، عن الخطابى‏.‏

وقال صاحب تمت العين-‏:‏ أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم‏:‏ النوال، والنَّيْل، ويقال‏:‏ نال يَنال منالا، ونَالَهُ، والنَّوْلَة اسم للقبلة‏.‏

باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْقِتَالُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏؟‏، فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ، قَالَ‏:‏ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، قَالَ‏:‏ تمت مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-‏.‏

فيه‏:‏ جواز سؤال العالم وهو واقف، كما ترجم، لعذر، أو لشغل، ولا يكون ذلك تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه، ولا أمره بالجلوس‏.‏

وجواب النبى صلى الله عليه وسلم، بغير لفظ سؤاله، والله أعلم، من أجل أن الغضب والحمية قد يكونان لله عز وجل، ولعرض الدنيا، وهو كلام مشترك، فجاوبه النبى صلى الله عليه وسلم بالمعنى لا بلفظ الذى سأله به السائل، إرادة إفهامه وخشية التباس الجواب عليه لو قسم له وجوه الغضب والحمية، وهذا من جوامع الكلم الذى أوتيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب السُّؤَالِ وَالْفُتوى عِنْدَ رَمْىِ جِمَارِ العَقَبة

- فيه‏:‏ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، قَالَ‏:‏ تمت ارْمِ وَلا حَرَجَ-، قَالَ آخَرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ‏:‏ تمت انْحَرْ وَلا حَرَجَ-، فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ‏:‏ تمت افْعَلْ وَلا حَرَجَ‏.‏

ومعنى هذا الباب أنه يجوز أن يسأل العالم عن العلم ويجيب وهو مشتغل فى طاعة الله، لأنه لا يترك الطاعة التى هو فيها إلا إلى طاعةٍ أخرى‏.‏

باب قَوْلِ اللَّه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء 85‏]‏

- فيه‏:‏ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ‏:‏ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لا تَسْأَلُوهُ، لا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ‏؟‏ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ‏:‏ تمت‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ‏(‏- ‏[‏الأسراء‏:‏ 85‏]‏ قَالَ الأعْمَشُ‏:‏ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا يدل على أن من العلم أشياء لم يُطلع الله عليها نبيًا، ولا غيره، أراد الله تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم على العجز عن علم ما لا يدركون حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه، ألا تسمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فعلم الروح مما لم يشأ تعالى أن يُطْلعِ عليه أحد من خلقه‏.‏

باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقعُ فِى أَشَدَّ مِنْهُ

- فيه‏:‏ عَائِشَةُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ‏:‏ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ منه، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ- فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أنه قد يترك شيئًا من الأمر بالمعروف إذا خشى منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه‏.‏

وفيه‏:‏ أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس إليه فى دين الله من غير الفرائض، بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ إنما خشى أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم‏.‏

وقد روى أن قريشًا حين بنت البيت فى الجاهلية تنازعت فى من يجعل الحجر الأسود فى موضعه، فحكموا أول رجل يطلع عليهم، فطلع النبى صلى الله عليه وسلم فرأى أن يجعل الحجر فى ثوب، وأمر كل قبيلة تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك، ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر‏.‏

فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ما فعل، فجاء الحجاج فَرَدَّهُ كما كان، فتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس بالبيت، ويكثر هدمه وبنيانه‏.‏

وقد استدل أبو محمد الأصيلى من هذا الحديث فى مسألة من النكاح، وذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم، وكان فيه ميل إلى الصبا فخطب ابنة عمه وخطبها رجل غنى، فمال إليه الوصى وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه ورفع ذلك إلى القاضى وشاور فقهاء وقته فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأصيلى أن تزوج منه، خشية أن يقعا فى المكروه، استدلالا بهذا الحديث، فزوجت منه‏.‏

باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهَةَ أَلا يَفْهَمُوا

- وَقَالَ عَلِىٌّ‏:‏ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَسُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُعَاذِ- وهو رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، فَقَالَ‏:‏ تمت يَا مُعَاذَ-، قَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلاثًا، قَالَ‏:‏ تمت مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ-، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُون‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت إِذًا يَتَّكِلُوا-‏.‏

وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسَ، قَالَ‏:‏ ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِمُعَاذِ‏:‏ تمت مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الْجَنَّةَ-، قَالَ‏:‏ أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ‏؟‏ قَالَ تمت لا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا-‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أنه يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لقصير فهمه، كما فعل صلى الله عليه وسلم، وقد قال مالك بن أنس‏:‏ تمت من إذالة العالم أن يجيب كل من سأله-، وإنما أراد ألا يوضع العلم إلا عند من يستحقه ويفهمه‏.‏

وفيه‏:‏ أن من عِلَمَ علمًا- والناس على غيره من أخذٍ بشدة، أو ميلٍ إلى رخصة- كان عليه أن يودعه مستأهله ومن يظن أنه يضبطه كما فعل معاذ حين حدث به بعد أن نهاه النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يخبر به خوف الاتكال، فأخبر به عند موته خشية أن يدركه الإثم فى كتمانه‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ تمت حرمه الله على النار- أى حرمه الله على الخلود فى النار، لثبوت قوله‏:‏ تمت أخرجوا من النار من فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان-، ولإجماعهم أنه لا تسقط عنه مظالم العباد، هذا تأويل أهل السنة، والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين بذنوبهم فى النار‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة- تمت ومن قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة- فروى عن السلف فى تأويله ما ذكر الطبرى، قال‏:‏ حدثنا محمد بن على بن الحسن ابن شقيق، قال‏:‏ سمعت أبى يقول‏:‏ أخبرنا أبو حمزة، عن الحسين بن عمران، عن الزهرى، أنه سئل عن الحديث تمت من قال لا إله إلا الله دخل الجنة- قال‏:‏ حدثنى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، أن ذلك كان قبل نزول الفرائض‏.‏

وذكر أبو عبيد، عن ابن أبى خيثمة، قال‏:‏ حدثنا أبى، قال‏:‏ حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، قال‏:‏ سأل هشام بن عبد الملك، الزهرى، فقال‏:‏ حدثنا بحديث النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق-، فقال الزهرى‏:‏ أين يذهب بك يا أمير المؤمنين‏؟‏ كان هذا قبل الأمر والنهى‏.‏

وذكر الطبرى، حدثنا ابن حميد، حدثنا حماد بن سلمة، عن الحسن بن عميرة، قال‏:‏ قيل للحسن‏:‏ من قال‏:‏ تمت لا إله إلا الله دخل الجنة‏؟‏- فقال‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله فأدى حقها وفريضتها دخل الجنة‏.‏

وذكر أبو عبيد، عن عطاء بن أبى رباح أنه قيل له‏:‏ إن فى المسجد عمر بن ذر، ومسلم النحات، وسالم الأفطس يقولون‏:‏ من زنى، وسرق، وقذف المحصنات، وأكل الربا، وعمل بالمعاصى أنه مؤمن كإيمان البر التقى الذى لم يعص الله، فقال عطاء‏:‏ أبلغهم ما حدثنى به أبو هريرة‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت لا يقتل المؤمن حين يقتل وهو مؤمن، ولا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن- فذكرت ذلك لسالم الأفطس وأصحابه، فقالوا‏:‏ أين حديث أبى الدرداء تمت وإن زنى وإن سرق- فذكرت ذلك لعطاء، فقال‏:‏ كان هذا ثم نزلت الحدود والأحكام بعد، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا إيمان لمن لا أمانة له- و تمت لايفتك مؤمن‏.‏‏.‏‏.‏-‏.‏

وذكر البخارى حديث أبى الدرداء، وحديث أبى ذر فى كتاب الاستئذان، فى باب من أجاب بلبيك وسعديك، وذكر حديث أبى ذر أيضًا فى كتاب اللباس، فى باب الثياب البيض‏.‏

قال أبو ذر‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت ما من عبد قال‏:‏ لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة- قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ تمت وإن زنى وإن سرق، ثلاث مرات، وإن رغم أنف أبى ذر-، وفسره البخارى قال‏:‏ هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم، وقال‏:‏ لا إله إلا الله غفر له‏.‏

وقول البخارى‏:‏ تمت إذا تاب- يعنى إذا تحلل من مظالم العباد، وتاب من ذنوبه التى بينه وبين الله تعالى‏.‏

والتأثم‏:‏ إلغاء الإثم عن نفسه، وقد تقدم فى كتاب بدء الوحى، وسيأتى ما للعلماء فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا يزنى الزانى وهو مؤمن- فى أول كتاب الحدود، إن شاء الله‏.‏

باب الْحَيَاءِ فِى الْعِلْمِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْىٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ‏.‏

وقالتْ عَائِشَةُ‏:‏ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ‏.‏

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ‏؟‏ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ-، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تمت نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا‏؟‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ‏:‏ تمت مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا هِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِى مَا هِيَ‏؟‏- فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ فَحَدَّثْتُ أَبِى بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِى، فَقَالَ‏:‏ لأنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِى كَذَا وَكَذَا-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما أراد البخارى بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقولها‏:‏ إن الله لا يستحيى من الحق، فإن الاستحياء من الله غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا قال أهل التفسير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلا، وإنما قالوا ذلك، لأن الحياء هو الانقباض بتغيير الأحوال، وحدوث الحوادث فيمن يتغير به، لا يجوز على الله‏.‏

وقولها‏:‏ تمت لا يستحيى من الحق- يقتضى أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق‏.‏

وفيه‏:‏ أن المرأة تحتلم، غير أن ذلك نادر فى النساء، ولذلك أنكرته أم سلمة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت تربت يمينك- هى كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلا لذلك، كما يقول‏:‏ قاتله الله ما أسعده، وهو لا يريد قتله الله، وسيأتى تفسيرها لأهل اللغة فى كتاب الأدب إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فبم يشبهها ولدها- يعنى إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى تمنى عمر، رضى الله عنه، أن يجاوب ابنه النبى صلى الله عليه وسلم، بما وقع فى نفسه فيه من الفقه أن الرجل مباح له الحرص على ظهور ابنه فى العلم على الشيوخ، وسروره بذلك‏.‏

وقيل‏:‏ إنما تمنى له عمر ذلك رجاء أن يسر النبى بإصابته، فيدعو له، فينفعه الله بدعائه‏.‏

وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس، وهو صغير مع شيوخ الصحابة‏.‏

وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر بن الخطاب فنظر إلى ابن عباس قد قرع الناس بلسانه، فقال‏:‏ من هذا الذى نزل عن القوم فى سنه ومدته وتقدمهم فى قوله وعلمه‏.‏

وقالت العلماء‏:‏ العالم كبير وإن كان حدثًا، والجاهل صغير وإن كان شيخًا‏.‏

وفيه‏:‏ أن الابن الموفق العالم أفضل مكاسب الدنيا، لقوله‏:‏ تمت لأن كنت قلتها أحب إلى من كذا وكذا-‏.‏

وفى سماع أشهب، عن مالك أنه سئل عن المصلى لله يقع فى نفسه أنه يجب أن يعلم، ويجب أن يلقى فى طريق المسجد، ويكره أن يلقى فى طريق غيره، فقال‏:‏ إذا كان أول فعله لله فلا أرى بذلك بأسا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحًا، وإن هذا ليكون من الشيطان مصدق فيقول‏:‏ إنك لتحب أن يعلم ليمنعه ذلك، وهذا أمر يكون فى القلب لا يملك، فإذا كان أصله لله لم أر بذلك بأسا، قد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت ما شجرة لا يسقط ورقها- فقال ابن عمر‏:‏ فوقع فى نفسى أنها النخلة، فقال عمر‏:‏ لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 84‏]‏‏.‏

باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ

- فيه‏:‏ عَلِىِّ، كُنْتُ رَجُلا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ تمت فِيهِ الْوُضُوءُ-‏.‏

إنما استحيا على أن يسأل رسول الله لمكان ابنته، وهذا الحياء محمود، لأنه لا يمتنع به من تعلم ما جهل وبعث من يقوم مقامه فى ذلك، ففيه‏:‏ الحياء من الأصهار فى ذكر أمور الجماع وشبهه‏.‏

وفيه‏:‏ قبول خبر الواحد‏.‏

باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا سَأَل النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ تمت لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا الْعِمَامَةَ، وَلا السَّرَاوِيلَ، وَلا الْبُرْنُسَ، وَلا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرانُ أو الْوَرْسُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا، حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ-‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أنه يجوز للعالم إذا سئل عن الشىء أن يجيب بخلافه، إذا كان فى جوابه بيان ما سئل عنه وتحديده، ألا ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم، فأجاب بما لا يلبس‏؟‏ إذ معلوم أن ما سوى ذلك مباح للمحرم، فأما الزيادة على سؤال السائل فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين- فهذه زيادة وإنما زاده لعلمه بمشقة السفر وقلة وجود ما يحتاج إليه من الثياب فيه، ولما يلحق الناس من الحفى بالمشى، رحمة لهم وتنبيهًا على منافعهم، وكذلك يجب للعالم أن ينبه الناس فى المسائل على ما ينتفعون به، ويتسعون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى ترخيص شىء من حدود الله‏.‏

ونهيه له عن الوَرْسِ والزعفران، قطع للذريعة إلى الطيب للمحرم لما فيهما من دواعى النساء، وتحريك اللذة والله الموفق‏.‏

آخر كتاب العلم‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْوُضُوءِ

باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ

وَقَوْلِ اللَّه‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ وَبَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلاثًا وَثَلاثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قال الطحاوى وغيره‏:‏ اختلف أهل العلم فى القيام المذكور فى هذه الآية، فقال بعضهم‏:‏ كل قائم إلى صلاة مكتوبة فقد وجب عليه الوضوء قبل قيامه إليها، قالوا‏:‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏، أى إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله‏.‏

ورووا ذلك عن على بن أبى طالب منقطعًا‏.‏

وروى شعبة، عن مسعود بن على، أن على بن أبى طالب، كان يتوضأ لكل صلاة ويتلو‏:‏ ‏(‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية‏.‏

وممن كان يتوضأ لكل صلاة وإن كان طاهرًا‏:‏ ابن عمر، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وابن سيرين‏.‏

وقال جمهور أهل العلم‏:‏ ليس على من أراد القيام إلى صلاة مكتوبةٍ أن يتوضأ، إلا أن يكون محدثًا فيتوضأ لحدثه، لأنه إذا كان متوضئًا للصلاة فلا معنى لتوضئه وضوءًا لا يخرجه من حدث إلى طهارة‏.‏

وممن روى عنه الجمع بين صلوات بوضوء واحد‏:‏ سعد بن أبى وقاص، وأبو موسى الأشعرى، وأنس بن مالك، وابن عباس‏.‏

إلا أن بعض قائلى هذه المقالة قالوا‏:‏ إن الوضوء لكل صلاة نسخ بما رواه الثورى عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر‏:‏ ما هذا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ تمت عمدًا صنعته يا عمر-‏.‏

وبما روى ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة من الأنصار دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة مصلية، ومعه أصحابه، فصلى الظهر والعصر بوضوء واحد‏.‏

وقال أكثر أهل هذه المقالة‏:‏ إن جَمْع الرسول صلى الله عليه وسلم الصلوات بوضوء واحد يوم الفتح، وعند المرأة التى دعته للشاة المصلية، لم يكن ناسخًا لما تقدم من وضوئه صلى الله عليه وسلم لكل صلاة، وإنما بيَّن بفعله يوم الفتح أن وضوءه لكل صلاة كان من باب الفضل والازدياد فى الأجر، فمن اقتدى به فى ذلك فله فيه الأسوة الحسنة‏.‏

قالوا‏:‏ ومما يدل على صحة ذلك ما رواه ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبى عطية الهذلى، قال‏:‏ صليت مع ابن عمر الظهر والعصر والمغرب، فتوضأ لكل صلاة، فقلت له‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ليست بسنةٍ ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ تمت من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات-‏.‏

فبان بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من سنته أن الوضوء لا يجب إلى القيام للصلوات إلا عن الأحداث الموجبة للطهارة، وهذا قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى، وعامة فقهاء الأمصار، ومن بعدهم إلى وقتنا هذا‏.‏

وقوله‏:‏ تمت وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فرض الوضوء مرةً مرةً-، وذلك أنه صلى به فَعُلِمَ أنه الفرض، إذ لا ينقص صلى الله عليه وسلم من فرضه، وهو المُبَيِّن عن الله لأمته دينهم‏.‏

ووضوءه صلى الله عليه وسلم مرتين وثلاثًا هو من باب الرفق بأمته والتوسعة عليهم ليكون لمن قصر فى المرة الواحدة عن عموم غسل أعضاء الوضوء أن يستدرك ذلك فى المرة الثانية والثالثة، ومن أكمل أعضاءه فى المرة الواحدة فهو مخير فى الاقتصار عليها أو الزيادة على المرة الواحدة‏.‏

وكان تنويع وضوئه صلى الله عليه وسلم من باب التخيير، كما ورد التخيير فى كفارات الأَيْمَان بالله، وعقوبة المحاربين‏.‏

وقال أبو الحسن بن القصار‏:‏ نسق الأعضاء فى الآية بالواو بعضها على بعض دليل أن الرتبة غير واجبة فى الوضوء، لأن حقيقة الواو فى لسان العرب الجمع والاشتراك دون التعقيب، والتقديم، والتأخير، هذا قول سيبويه‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك‏.‏

فروى عن على، وابن مسعود، وابن عباس، أنهم قالوا‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك فى الوضوء، وهذا قول عطاء، وسعيد بن المسيب، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والثورى، وسائر الكوفيين، والأوزاعى، والمزنى‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ لا يجزئه الوضوء غير مرتب حتى يغسل كلا فى موضعه، واحتجوا بأن الواو قد تكون للترتيب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت نبدأ بما بدأ الله به-‏.‏

فأجابهم أهل المقالة الأولى فقالوا‏:‏ إنا لا ننكر إذا صحب الواو بيان يدل على التقدمة أنها تصير إليه بدلالته، وإلا فالظاهر أن موضعها للجمع، ولو كانت الواو توجب رتبة لما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى تبيين الابتداء بالصفا، وإنما بيَّن ذلك إعلامًا لمراد الله من الواو فى ذلك الموضع، وليس وضوءه صلى الله عليه وسلم على نسق الآية أبدًا بيانًا لمراد الله من آية الوضوء كبيانه لركعات الصلوات، لأن آية الوضوء بينة مستغنية عن البيان، والصلوات مختلفة مفتقرة إليه، ومما جاء فى القرآن مما لا توجب الواو فيه النسق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، فبدأ بالحج قبل العمرة، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل الحج، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 110‏]‏ جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة فى حين صلاة أن يبدأ بالزكاة، ثم يصلى الصلاة فى وقتها عند الجميع، وكذلك قوله فى قتل الخطأ‏:‏ ‏(‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ لا يختلف العلماء أن من وجب عليه إعطاء الدية، وتحرير الرقبة أن يعطى الدية قبل تحرير الرقبة، ومثله كثير فى القرآن وكلام العرب، لو قال‏:‏ أعط زيدًا وعمرًا دينارًا تبادر الفهم من ذلك‏:‏ الجمع بينهما فى العطاء، ولم يفهم منه تقديم أحدهما على الآخر فى العطاء‏.‏

باب لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا تُقْبَلُ صَلاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ-‏.‏

قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ‏:‏ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ‏.‏

أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ صلاة إلا بطهارة، على ما جاء فى الحديث‏.‏

وأما قول أبى هريرة‏:‏ تمت الحدث فُساءٌ أو ضُرَاطٌ-، فإنما اقتصر على بعض الأحداث، لأنه أجاب سائلاً سأله عن المصلى يحدث فى صلاته، فخرج جوابه على ما يسبق المصلى من الإحداث فى صلاته، لأن البول، والغائط، والملامسة غير معهودة فى الصلاة، وهو نحو قوله للمصلى إذْ أمره باستصحاب اليقين فى طهارته، أى لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، ولم يقصد به إلى تعيين الأحداث وتعدادها، والأحداث التى أجمع العلماء على أنها تنقض الوضوء سوى ما ذكره أبو هريرة‏:‏ البول، والغائط، والمذى، والودى، والمباشرة، وزوال العقل بأى حال زال، والنوم الكثير‏.‏

والأحداث التى اختُلف فى وجوب الوضوء منها‏:‏ القُبْلَة، والجَسَّة، ومس الذكر، والرعاف، ودم الفصد، وما يخرج من السبيلين نادرًا غير معتاد مثل سلس البول، والمذى، ودم الاستحاضة، والدود يخرج من الدبر وليس عليه أذى‏.‏

فممن أوجب الوضوء فى القُبلة‏:‏ ابن عمر، وهو قول مكحول، وربيعة، والأوزاعى، والشافعى‏.‏

وذهب مالك إلى أنه إن قبلها بالشهوة انتقض وضوءه وهو قول الثورى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

وشرط أبو حنيفة، وأبو يوسف فى القبلة للشهوة الانتشار، وكذلك ينتقض عنده الوضوء، فإن قَبَّل لشهوة ولم ينتشر فلا وضوء عليه‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ لا وضوء عليه فى القبلة، وإن انتشر حتى يمذى‏.‏

وقال ابن عباس، وعطاء، وطاوس، والحسن‏:‏ لا وضوء عليه فى القبلة‏.‏

فأمَّا مَسُّ المرأة، فقال مالك، والثورى‏:‏ إن مسَّها لشهوة انتقض وضوءه‏.‏

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف‏:‏ لابد مع الشهوة من الانتشار، وإلا فلا وضوء‏.‏

وقال محمد بن الحسن‏:‏ لابد أن يمذى مع الانتشار‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ ينتقض وضوءه بكل حال، وبمسها بكل عضوٍ من أعضائه إذا كان بغير حائل‏.‏

وأما مس الذكر، فقال مالك فى المدونة‏:‏ إذا مسه لشهوة من فوق ثوب، أو تحته، بيده أو بسائر أعضائه انتقض وضوءه‏.‏

وفى العتبية‏:‏ قيل لمالك‏:‏ إن مس ذكره على غلالة خفيفة‏؟‏ قال‏:‏ لا وضوء عليه‏.‏

ومن سماع أبى زيد‏:‏ سئل مالك عن الوضوء من مسِّ الذكر، فقال‏:‏ حسن وليس بسنة، وقال مرة أخرى‏:‏ أحب إلىَّ أن يتوضأ‏.‏

وذهب الثورى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا ينتقض وضوءه على أى حال مسه‏.‏

وذهب الليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنه إن مسه بباطن يده من غير حائل ففيه الوضوء وإن مسه لغير شهوة، وبه قال إسحاق، وأبو ثور‏.‏

وأما الأحداث المختلف فيها، فسيأتى مذاهب العلماء فيها فى مواضعها، إن شاء الله‏.‏

باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ

- فيه‏:‏ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، قَالَ‏:‏ رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ، ثم قَالَ‏:‏ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ تمت إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ-‏.‏

قال أبو محمد الأصيلى‏:‏ هذا الحديث يدل أن هذه الأمة مخصوصة بالوضوء من بين سائر الأمم‏.‏

قال غيره‏:‏ وإذا تقرر هذا بطل ما روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فقال‏:‏ تمت هذا وضوئى ووضوء الأنبياء قبلى-، وهو حديث لا يصح سنده، ومداره على زيد العمى، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر، وزيد ضعيف‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل-، تأوله أبو هريرة على الزيادة على حد الوضوء، فكان يتوضأ إلى نصف ساقيه، وإلى منكبيه، ويقول‏:‏ إنى أحب أن أطيل غرتى، وربما قال‏:‏ هذا موضع الحلية‏.‏

وهذا شىء لم يتابع عليه أبو هريرة، والمسلمون مجمعون على أنه لا يتعدى بالوضوء ما حد الله ورسوله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبدر الناس إلى الفضائل، وأرغبهم فيها، لم يجاوز قط موضع الوضوء فيما بلغنا‏.‏

ويُحتج على أبى هريرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وروى سفيان، عن موسى بن أبى عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلاً سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن الوضوء، فدعا بماء فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال‏:‏ تمت هكذا الطهور، فمن زاد على هذا فقد تعدَّى وظلم-‏.‏

ويحمل قوله‏:‏ تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته-، يعنى يديمها، فالطول والدوام بمعنى متقارب، أى من استطاع أن يواظب على الوضوء لكل صلاة فإنه يطيل غرته، أى يقوِّى نوره، ويتضاعف بهاؤه، فَكَنَّى بالغرة عن نور الوجه يوم القيامة‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ قوله‏:‏ تمت فمن استطاع منكم أن يطيل غرته- فإنه كنى بالغرة عن الحجلة، لأن أبا هريرة كان يتوضأ إلى نصف ساقيه، والوجه فلا سبيل إلى الزيادة فى غسله، فكأنه، والله أعلم، أراد الحجلة فكنى بالغرة عنها‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء فى المسجد، وقد كرهه قوم وأجازه الأكثر، وإنما ذلك تنزيه للمسجد، كما ينزه عن البصاق والنخامة، وحرمة أعلى المسجد، كحرمة داخله، وممن أجاز الوضوء فى المسجد‏:‏ ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، والنخعى، وطاوس، وهو قول ابن القاسم صاحب مالك، وأكثر العلماء‏.‏

وكرهه ابن سيرين، وهو قول مالك، وسحنون‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ إذا توضأ فى مكان من المسجد يبلّه ويتأذى به الناس فإنى أكرهه، وإن فحص عن الحصى ورده عليه، فإنى لا أكرهه، وكذلك كان يفعل عطاء وطاوس‏.‏

باب مَنْ لا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ

- فيه‏:‏ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عبد اللَّه بنِ زيد، أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ الَّذِى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِى الصَّلاةِ، فَقَالَ‏:‏ تمت لا تَنْفَتِلْ- أَوْ لا تَنْصَرِفْ- حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ تَجِدَ رِيحًا-‏.‏

على هذا جماعة من العلماء‏:‏ أن الشك لا يزيل اليقين، ولا حكم له، وأنه ملغى مع اليقين، وقد اختلفوا فى ذلك، فروى ابن القاسم، عن مالك، أن من شك فى الحدث بعد تيقن الطهارة فعليه الوضوء‏.‏

وروى عنه ابن وهب أنه قال‏:‏ أحب إلىَّ أن يتوضأ‏.‏

وروى ابن نافع، عن مالك أنه لا وضوء عليه‏.‏

وقال الثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى‏:‏ يبنى على يقينه، هو على وضوء بيقين، قالوا‏:‏ وكذلك يبنى على الأصل حدثًا كان أو طهارة، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لا تنصرف حتى تسمع صوتًا، أو تجد ريحًا-، ولم يفرق بين أول مرة أو بين ما يعتاده من ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ والأصول مبينة على اليقين، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أو أربعًا، فليبن على يقينه-، وكذلك لو شك هل طلق أم لا‏؟‏ لم يلزمه الطلاق، لأنه على يقين نكاحه، وهكذا لو شك هل أصاب ثوبه أو بدنه نجاسة أم لا‏؟‏ فإنه يبنى على يقين طهارته‏.‏

والحجة لرواية ابن القاسم، عن مالك أنه قال‏:‏ قد تعبدنا بأداء الصلاة بيقين الطهارة، فإذا طرأ الشك عليها فقد أبطلها، كالمتطهر إذا نام مضطجعًا، فإن الطهارة واجبة عليه بإجماع، وليس النوم فى نفسه حدثًا، وإنما هو من أسباب الحدث الذى ربما كان، وربما لم يكن، وكذلك إذا شك فى الحدث، فقد زال عنه يقين الطهارة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ لا حجة للكوفيين فى حديث عبد الله بن زيد هذا، لأن الحديث إنما ورد فى المستنكح الذى يشك فى الحدث كثيرًا، ومن استنكحه ذلك فلا وضوء عليه عند مالك وغيره، والدليل على ذلك قوله فيه‏:‏ تمت شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- والشكوى لا تكون إلا من علة، ويؤيد هذا قوله‏:‏ تمت إنه يخيل إلىَّ-، لأن التخييل لا يكون حقيقة، وقد بين ذلك حماد بن سلمة فى حديث عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت إذا كان أحدكم فى الصلاة فوجد حركة فى دبره فأَشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا-‏.‏

قال أحمد بن خالد‏:‏ هذا حديث جيد ذكر القصة كيف هى، إنما هى فى الشك، لأن غيره اختصره، فقال‏:‏ لا وضوء إلا أن يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، وإنما هذا إذا شك وهو فى الصلاة كما قال هاهنا، لأنه من الشيطان‏.‏

ومما يدل على ذلك أيضًا ما رواه حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ تمت إن الشيطان يأتى أحدكم فى صلاته، فيأخذ شعرة من دبره فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا-‏.‏

وقد قال بعض أهل العلم‏:‏ إن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا- معارض لقوله، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت من شك فى صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا، أم أربعًا، فليأت بركعة-، لأنه حين أمره أن لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، فقد أمره بالحكم لليقين وإلغاء الشك، وفى حديث الشك فى الصلاة أمره بالحكم للشك وإلغاء اليقين حين أمره بالإتيان بركعة‏.‏

وليس كما ظنه بل الحديثان متفقان فى إلغاء الشك والحكم لليقين، وذلك أنه أمر الذى يخيل إليه أنه يجد الشىء فى الصلاة أن لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، لأنه كان على يقين من الوضوء فأمره صلى الله عليه وسلم بإطراح الشك، وأن لا يترك يقينه إلا بيقين آخر، وهو سماع الصوت، أو وجود الريح، والذى يشك فى صلاته فلا يدرى أثلاثًا صلى، أو أربعًا لم يكن على يقين من الركعة الرابعة، كما كان فى الحديث الآخر على يقين من الوضوء، بل كان على يقين من ثلاث ركعات شاكًا فى الرابعة، فوجب أن يترك شكه فى الرابعة، ويرجع إلى يقين من الإتيان بها، فصار حديث الشك فى الصلاة مطابقًا لحديث الشك فى الحدث، مشبهًا له فى أن اليقين يقدح فى الشك، ولا يقدح الشك فى اليقين، والحمد لله‏.‏

باب التَّخْفِيفِ فِى الْوُضُوءِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ، قَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا- يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ- وَقَامَ يُصَلِّى، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ- وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ عَنْ شِمَالِهِ- فَحَوَّلَنِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاةِ، فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ‏.‏

قُلْنَا لِعَمْرٍو‏:‏ إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ، وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالَ عَمْرٌو‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ‏:‏ رُؤْيَا الأنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تمت وضوءًا خفيفًا- يريد تمام غسل الأعضاء دون التكثر من إمرار اليد عليها، وهو مرة سابغة، وهو أدنى ما تجزئ به الصلاة، وإنما خففه المحدِّث لعلمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ ثلاثًا ثلاثًا للفضل، والواحدة بالإضافة إلى الثلاث تخفيف‏.‏

وقد ذكر البخارى هذا الحديث فى كتاب التفسير وبينه، فقال‏:‏ تمت فقام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه-، وذكره فى كتاب الدعاء، وقال‏:‏ تمت فتوضأ وضوءًا بين وضوئين لم يكثر وقد أبلغ-‏.‏

فهذا كله يفسر قوله‏:‏ تمت وضوءًا خفيفًا- أنه وضوء تجوز به الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت فنام حتى نفخ، ثم صلى- هو مما خص به صلى الله عليه وسلم من أنه تنام عينه، ولا ينام قلبه‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على أن من نام من سائر البشر حتى نفخ لا يصلى حتى يتوضأ، والنوم إنما يجب منه الوضوء إذا خامر القلب وغلب عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام قلبه، فلذلك لم يتوضأ‏.‏

وفيه‏:‏ أنه توضأ بعد نوم نامه، ثم نومًا آخر، ولم يتوضأ، فدل ذلك على اختلاف أحواله فى النوم، فمرة يستثقل نومًا، ولا يعلم حاله، ومرةً يعلم حاله من حدث وغيره‏.‏

وفيه‏:‏ جواز العمل الخفيف فى الصلاة‏.‏

وفيه‏:‏ رد على أبى حنيفة فى قوله‏:‏ إن الإمام إذا صلى مع رجل واحد إنه يقوم خلفه لا عن يمينه، وهذا مخالف لفعل النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ الإِسْبَاغُ الإنْقَاءُ‏.‏

- فيه‏:‏ أُسَامَةَ، قَالَ‏:‏ دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقُلْتُ‏:‏ الصَّلاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ تمت الصَّلاةُ أَمَامَكَ-، فَرَكِبَ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِى مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ، فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ تمت فتوضأ ولم يسبغ الوضوء-، يريد توضأ مرة سابغة، وقد رواه إبراهيم ابن عقبة، عن كريب، قال‏:‏ تمت فتوضأ وضوءًا ليس بالبالغ-، وإنما فعل ذلك، والله أعلم، لأنه أعجله دفعه الحاج إلى المزدلفة، فأراد أن يتوضأ وضوءًا يرفع به الحدث، لأنه كان صلى الله عليه وسلم لا يبقى بغير طهارة، ذكره مسلم فى الحديث، وقد جاء فى باب الرجل يوضئ صاحبه هذا الحديث مبينًا‏.‏

قال أسامة‏:‏ تمت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل إلى الشعب يقضى حاجته، فجعلت أصب عليه ويتوضأ-، ولا يجوز أن يصب عليه إلا وضوء الصلاة لا وضوء الاستنجاء كما زعم من فسر قوله‏:‏ تمت ولم يسبغ الوضوء- أنه استنجى فقط، وهذا لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا يقرب منه أحدٌ، وهو على حاجته، والدليل على صحة ما تأولناه قول أسامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صب عليه الماء‏:‏ تمت الصلاة يا رسول الله-، لأنه محال أن يقول له‏:‏ الصلاة، ولم يتوضأ وضوء الصلاة‏.‏

وقوله‏:‏ تمت الصلاة أمامك-، أى سنة الصلاة لمن دفع عن عرفة أن يصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة، وإن تأخر الأمر عن العادة، ولم يعلم أسامة أن سنة الصلاة بالمزدلفة، إذ كان ذلك فى حجة الوداع، وهى أول سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، فلما أتى المزدلفة أسبغ الوضوء أخذًا بالأفضل والأكمل على عادته فى سائر الأيام‏.‏

وقال أبو الزناد‏:‏ توضأ ولم يسبغ لذكر الله تعالى، لأنهم يكثرون ذكر الله عند الدفع من عرفة‏.‏

وقال غيره‏:‏ وقوله‏:‏ تمت الصلاة يا رسول الله- فيه من الفقه أن الأدون قد يُذَكِّر الأعلى، وإنما خشى أسامة أن ينسى الصلاة لما كان فيه من الشغل، فأجابه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن للصلاة تلك الليلة موضعًا لا يتعدى إلا من ضرورة، مع أن ذلك كان فى سفر، ومن سنته صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين صلاتى ليله، وصلاتى نهاره فى وقت إحداهما، ولم يختلف العلماء أن الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة سنة مؤكدة لمن دفع مع الإمام أو بعده‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه اشتراك وقت صلاة المغرب والعشاء، وأن وقتهما واحد‏.‏

وقوله‏:‏ تمت صلى المغرب والعشاء ولم يصل بينهما- فيه حجة لمن لا ينتفل فى السفر، وكذلك قال ابن عمر‏:‏ لو تنفلت لأتممت، يعنى فى السفر‏.‏

وقال غيره‏:‏ ليس فى ترك التنفل بين الصلاتين فى وقت جمعهما ما يدل على ترك النافلة فى السفر، لأنه إذا جمع بينهما فلا مدخل للنافلة هناك، لأن الوقت بينهما لا يتسع لذلك، ألا ترى أن من أهل العلم من يقول‏:‏ لا يحطون رواحلهم تلك الليل حتى يجمعوا‏؟‏ ومنهم من يقول‏:‏ يصلون الأولى، ثم يحطون رواحلهم، مع ما فى ترك الرواحل بأوقارها مما نهى عنه من تعذيبها‏؟‏‏.‏

وأما ترك التنفل فى السفر، فإن ابن عمر لم يتابع على قوله فى ذلك، والفقهاء متفقون على اختيار التنفل فى السفر، وقد تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجلاً وراكبًا‏.‏

باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعِنْدَ الْوِقَاعِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ‏:‏ بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ-‏.‏

هذا الحديث مطابق لقوله تعالى، حاكيًا عن مريم‏:‏ ‏(‏وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وفى هذا الحديث حث وندب على ذكر الله فى كل وقت على حال طهارة وغيرها، ورد قول من أنكر ذلك، وهو قول يروى عن ابن عمر أنه كان لا يذكر الله إلا وهو طاهر، وروى مثله عن أبى العالية والحسن‏.‏

وروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله على حالتين‏:‏ على الخلاء، والرجل يواقع أهله‏.‏

وهو قول عطاء ومجاهد، قال مجاهد‏:‏ يجتنب الملك الإنسان عند جماعه، وعند غائطه، وهذا الحديث خلاف قولهم‏.‏

وفيه‏:‏ أن التسمية عند ابتداء كل عمل مستحبة، تبركًا بها واستشعارًا أن الله سبحانه هو الميسر لذلك العمل، والمعين عليه‏.‏

وكذلك استحب مالك وعامة أئمة الفتوى التسمية عند الوضوء‏.‏

وذهب بعض من زعم أنه من أهل العلم إلى أن التسمية فرض فى الوضوء، وحجة الجماعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية، ولم يذكر تسمية، فلا توجب غير ما أوجبته الآية إلا بدليل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ تمت لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه-‏.‏

قيل‏:‏ قد قال أحمد بن حنبل‏:‏ لا يصح فى ذلك حديث، ولو صح لكان معناه لا وضوء كاملاً كما قال‏:‏ تمت لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد-‏.‏

و تمت لا إيمان لمن لا أمانة له-‏.‏

وهذا الذى أوجب التسمية عند الوضوء لا يوجبها عند غسل الجنابة والحيض، وهذا مناقض لإجماع العلماء أن من اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ وصلى أن صلاته تامة‏.‏

باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، تمت أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَتَمَضْمَضَ منهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا، أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأخْرَى، فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ‏.‏‏.‏‏.‏، وذكر الحديث‏.‏

فيه‏:‏ الوضوء مرة مرة‏.‏

وفيه‏:‏ أن الماء المستعمل فى الوضوء طاهر مطهر، وهو قول مالك، والثورى، والحجة لذلك أن الأعضاء كلها إذا غسلت مرة مرة، فإن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملاً، ثم يمر به على كل جزء بعده، وهو مستعمل فيجزئه، فلو كان الوضوء بالماء المستعمل لا يجوز لم يجز الوضوء مرةً مرةً، ولما أجمعوا أنه جائز استعماله فى العضو الواحد كان فى سائر الأعضاء كذلك، وسنذكر اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى بابها بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاءِ

- فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلاءَ، قَالَ‏:‏ تمت اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ-‏.‏

ورواه غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ‏:‏ تمت إِذَا أَتَى الْخَلاءَ-‏.‏

وقال سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ عَنْ عَبْدُالْعَزِيزِ‏:‏ تمت إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلاءَ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه جواز ذكر الله على الخلاء، وهذا مما اختلفت فيه الآثار فروى عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت أنه أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد صلى الله عليه وسلم حتى تيمم بالجدار-‏.‏

واختلف فى ذلك أيضًا العلماء، فروى عن ابن عباس، أنه كره أن يذكر الله عند الخلاء، وهو قول عطاء، ومجاهد، والشعبى، وعكرمة، وقال عكرمة‏:‏ لا يذكر الله فى الخلاء بلسانه، ولكن بقلبه‏.‏

وأجاز ذلك جماعة من العلماء، وروى ابن وهب أن عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يذكر الله فى المرحاض‏.‏

وقال العرزمى‏:‏ قلت للشعبى‏:‏ أعطسُ وأنا فى الخلاء، أحمد الله‏؟‏ قال‏:‏ لا، حتى تخرج، فأتيت النخعى فسألته عن ذلك، فقال لى‏:‏ أحمد الله، فأخبرته بقول الشعبى، فقال النخعى‏:‏ الحمد يصعد ولا يهبط‏.‏

وهو قول ابن سيرين، ومالك بن أنس، وهذا الحديث حجة لمن أجاز ذلك‏.‏

وذكر البخارى فى كتاب تمت خلق أفعال العباد-‏:‏ قال عطاء فى الخاتم فيه ذكر الله‏:‏ لا بأس أن يدخل به الإنسان الكنيف، أو يلم بأهله، وهو فى يده لا بأس به‏.‏

وهو قول الحسن‏.‏

وذكر وكيع، عن سعيد بن المسيب مثله‏.‏

قال البخارى‏:‏ وقال طاوس فى المنطقة تكون على الرجل تكون فيها الدراهم يقضى حاجته‏:‏ لا بأس بذلك‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ لابد للناس من نفقاتهم‏.‏

وأحب بعض التابعين ألا يدخل الخلاء بالخاتم فيه ذكر الله‏.‏

قال البخارى‏:‏ وهذا من غير تحريم يصح‏.‏

وذكر وكيع عن سعيد بن المسيب مثل قول عطاء‏.‏

وأما اختلاف ألفاظ الرواة فى قوله‏:‏ تمت إذا دخل-، و تمت إذا أراد أن يدخل-، فالمعنى فيه متقارب، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏، والمراد إذا أردت أن تقرأ‏؟‏ غير أن الاستعاذة بالله متصلة بالقراءة، لا زمان بينهما، وكذلك الاستعاذة بالله من الخبث والخبائث لمن أراد دخول الخلاء متصلة بالدخول، فلا يمنع من إتمامها فى الخلاء، مع أن من روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك إذا أتى الخلاء أولى من رواية من روى إذا أراد أن يدخل الخلاء، لأنها زيادة، والأخذ بالزيادة أولى‏.‏

وأما حديث بئر جمل فإنما هو على الاختيار، والأخذ بالفضل، لأنه ليس من شرط رد السلام أن يكون على وضوء، قاله الطحاوى‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ وأما حديث بئر جمل وشبهه، فإن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم على وجه التأديب للمُسَلِّم عليه ألا يُسَلِّم بعضهم على بعض على حال كونهم على الحدث، وذلك نظير نهيه وهم كذلك أن يحدث بعضهم بعضًا بقوله‏:‏ تمت لا يتحدث المتغوطان على طوفهما، فإن الله يمقتهما-‏.‏

وروى أبو عبيدة الباجى، عن الحسن، عن البراء، أنه سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فلم يرد عليه شيئًا حتى فرغ‏.‏

وفسر أبو عبيد تمت الخبث والخبائث-، فقال‏:‏ الخبث يعم الشر، والخبائث الشياطين‏.‏

وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ أصحاب الحديث يروونه‏:‏ الخُبْث، ساكنة الباء، وإنما هو الخُبُث، مضموم الباء، جمع خبائث، والخبائث جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإناثهم، فأما الخُبْث، ساكن الباء، فهو مصدر خَبُثَ الشىء يخبثُ خبثًا، وقد جعل اسمًا‏.‏

قال ابن الأعرابى‏:‏ وأصل الخبث فى كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من المِلَلْ فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار‏.‏

وقال الحسن‏:‏ تمت إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل‏:‏ اللهم إنى أعوذ بك من الرجس، والنجس، الخبيث، المخبث، الشيطان الرجيم-‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إذا خرج أحدكم من الغائط، فليقل‏:‏ الحمد الله الذى عافانى، وأذهب عنى الأذى-‏.‏

وقوله‏:‏ تمت طوفهما-، يعنى حاجتهما‏.‏

باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاءِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْخَلاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا، فَقَالَ‏:‏ تمت مَنْ وَضَعَ هَذَا-‏؟‏ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ‏:‏ تمت اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ-‏.‏

قال المؤلف‏:‏ معلوم أن وضع الماء عند الخلاء إنما هو للاستنجاء به عند الحدث‏.‏

وفيه‏:‏ رد قول من أنكر الاستنجاء بالماء، وقال‏:‏ إنما ذلك وضوء النساء، وقال‏:‏ إنما كانوا يتمسحون بالحجارة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فيه‏:‏ خدمة العالم‏.‏

قال أبو الزناد‏:‏ دعا له النبى صلى الله عليه وسلم أن يفقهه الله فى الدين، سرورًا منه بانتباهه إلى وضع الماء، وهو من أمور الدين‏.‏

وفيه‏:‏ المكافأة بالدعاء لمن كان منه إحسان، أو عون، أو معروف‏.‏

باب لا تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلا عِنْدَ الْبِنَاءِ، جِدَارًا أَوْ نَحْوِهِ

- فيه‏:‏ أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تمت إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ، فَلا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَلا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا-‏.‏

أما قوله فى الترجمة‏:‏ تمت إلا عند البناء- فليس مأخوذًا من الحديث، ولكنه لما علم فى حديث ابن عمر استثناء البيوت، بوب فيه، لأن حديثه صلى الله عليه وسلم كله كأنه شىء واحد، وإن اختلفت طرقه، كما أن القرآن كله كالآية الواحدة وإن كثر‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما نهى عن استقبال القبلة، واستدبارها بالغائط والبول فى الصحارى، والله أعلم، من أجل من يصلى فيها من الملائكة، فيؤذيهم بظهور عورته مستقبلاً أو مستدبرًا، وأما فى البيوت والمبانى، وما يستتر فيه من الصحارى، وعمن فيها فليس ذلك عليه، ويحتمل أن يكون النهى عن ذلك، والله أعلم، إكرامًا للقبلة، وتنزيهًا لها، كما روى ابن جريج عن عطاء قال‏:‏ يكره أن ينكشف الإنسان مستقبل القبلة يتخلى، أو يبول، أو يأتزر إلا أن يأتزر تحت ردائه أو قميصه‏.‏

باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ‏:‏ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ، فَلا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلا بَيْتَ الْمَقْدِسِ‏.‏

فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ‏:‏ لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ، بِحَاجَتِهِ، وَقَالَ‏:‏ لَعَلَّكَ مِنِ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ لا أَدْرِى وَاللَّهِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ أما قول ابن عمر‏:‏ تمت إن ناسًا يقولون‏:‏ إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس-، فرواه سعيد بن أبى مريم، قال‏:‏ ثنا دواد بن عبد الرحمن، قال‏:‏ ثنا عمرو ابن يحيى المازنى، قال‏:‏ ثنا أبو زيد مولى بنى ثعلبة، عن معقل بن أبى معقل الأسدى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلتان بغائط، أو بول‏.‏

ولم يقل بهذا الحديث أحد من الفقهاء إلا النخعى، وابن سيرين، ومجاهد، فإنهم كرهوا أن يستقبل أحدٌ القبلتين أو يستدبرهما بغائط، أو بول، الكعبة وبيت المقدس‏.‏

وهؤلاء غاب عنهم حديث ابن عمر، وهو يدل على أن النهى إنما أريد به الصحارى لا البيوت، ولم يرو أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك فى الصحارى، وإنما روى أنه فعله فى البيوت‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ حديث ابن عمر ناسخ للنهى عن استقبال بيت المقدس، واستدباره بالغائط والبول، والدليل على هذا ما روى مروان الأصفر، عن ابن عمر، أنه أناخ راحلته مستقبل بيت المقدس، ثم جلس يبول إليها، فقلت‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهى عن هذا‏؟‏ قال‏:‏ إنما نهى عن هذا فى الفضاء، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شىء يسترك فلا بأس‏.‏

وروى وكيع، وعبيد الله بن موسى، عن عيسى بن أبى عيسى الحناط، قال‏:‏ قلت للشعبى‏:‏ إن أبا هريرة يقول‏:‏ لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ كانت منى التفاتة فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى كنيفه مستقبل القبلة‏.‏

فقال الشعبى‏:‏ صدق ابن عمر، وصدق أبو هريرة، قول أبى هريرة فى البَرِّية، وقول ابن عمر فى الكنيف، وأما كنفكم هذه فلا قبلة لها‏.‏

ودلت هذه الآثار على أن حديث أبى أيوب مخصص بحديث ابن عمر لا منسوخ به، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه الأحاديث فى أبواب القبلة فى كتاب الصلاة عند ذكر حديث أبى أيوب، إن شاء الله‏.‏

وأما قوله‏:‏ تمت إن ناسًا يقولون كذا-، ففيه دليل على أن الصحابة كانوا يختلفون فى معانى السنن، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع على عمومه، فمن هاهنا وقع بينهم الاختلاف‏.‏

وقال ابن القصار‏:‏ إن قيل‏:‏ كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى مقعد النبى صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه يجوز أن تكون كانت منه التفاتة فرآه، ولم يكن قاصدًا لذلك، فنقل ما رأى، وقصد ذلك لا يجوز كما لا يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، ثم قد يجوز أن تقع أبصارهم عليه، ويجوز أن يتحملوا الشهادة بعد ذلك، وقد يجوز أن يكون ابن عمر قصد لذلك ورأى رأسه دون ما عدا ذلك من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد فعله فنقل ما شاهد‏.‏

وقوله‏:‏ تمت لعلك من الذين يُصَلُّون على أوراكهم- يعنى الذى يسجد ولا يرتفع عن الأرض لاصقًا بها‏.‏