الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما سمعوا منه ما سمعوا تداولوا بينهم وتذاكروا بشأنه وماهيّته ولم يتفقوا {فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال بعضهم ما هذا بساحر ولا قوله قول ساحر ولا هو معتمد على السحر، وقال آخر كلا إنه ساحر ومن عادة السحرة التمويه بالكلام وادعاء ما ليس عندهم تهويلا، ثم كثر اللغط بينهم {وَأَسَرُّوا النَّجْوى} 62 أخفوها بينهم وهي عبارة عن الإقدام لمباراته أو الإحجام عنها، ثم اتفقوا على مناظرته على أنه إذا كان ساحرا غلبناه بكثرتنا، وإن كان ما معه من السماء فلنا أمر آخر ننظر به، وكلمة أسرّ، من الأضداد، بمعنى أخفى وأظهر ومثلها أودعت بمعنى دفعت الوديعة وقبلتها، وأطلبت بمعنى أحوجته إلى الطلب وأسعفته بما طلب، وأفزعت بمعنى أحللت فيهم الفزع وأخرجتهم إلى الفزع، وأشكيت بمعنى أحوجتهم للشكاية، ونزعت عن الأمر الذي شكوني به وهكذا كثير، وبأثناء المناجاة {قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى} 63 أي شريعتكم الحسنة الفضلى التي لا أمثل منها، تبعا لقول فرعون الآنف الذكر وإظهارا لطاعته في أمرهم به، وإن هنا مخفّفة من الثقيلة وأسمها ضمير الشان، وعلى هذا المصاحف، وقرئ: {إن هذين}.. إلخ. بأعمال إنّ و{إِنْ هذانِ}.. إلخ. على أن إن بمعنى نعم كقوله:
وقرىء إن بمعنى ما النافية، وعليه فتكون اللام في {لساحران} بمعنى إلا، كالتي في الآية 104 من الأعراف المارة، أي ما هذان إلا ساحران، قراءات أربع أرجحها الأولى على قراءة عاصم ورواية حفص وابن كثير والخليل، ثم قال بعضهم لبعض بعد انتهاء النجوى ومراجعة فرعون {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} واحدا على قلب واحد ومقصد واحد، لأنه أهيب لكم بأنظار المجتمعين، ولا تتفرقوا بالرأي والإقدام {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى} 64 على خصمه فإنه يربح ويفوز بالمرتبة العظمى من الملك ويكسب حمد الناس أجمع، وهذا من جملة ما تشاوروا به، ولما أجمع أمرهم على المقابلة {قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} ما لديك أولا لنلقي عليه ما يبطله {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى} 65 ما لدينا ثم تلقي أنت ما تراه مبطلا لعملنا، وقد استعملوا مع موسى الأدب بتفويض الأمر إليه، لأنه حين المداولة شكّوا في كونه ساحرا مثلهم، وظنّوا أن ما عنده من اللّه فاختاروا تقديمه احتراما له، ولكن اللّه تعالى ألهمه بأن يتقدّموا بما عندهم أولا ليظهر اللّه سلطانه بقذف الحق على الباطل ليمحق إفكهم ويزهق باطلهم ويعلي شأن رسوله على الناس، ولو ألقى هو أولا ثم ألقوا بعده لما ظهر للناظرين شيء له شأن، بل لبقيت عصاه حية كما هي عليه، وبقيت عصيهم وأخشابهم وحبالهم على ما هي عليه أيضا، لأنها لا تؤثر في عصا موسى، ولقال الناس إن كلا من الطرفين أتى بشيء عجيب ولكن لم يغلب أحد الآخر، وإذا أراد اللّه أمرا هيأ أسبابه ووفق إليه أحبابه {قالَ بَلْ أَلْقُوا} ما عندكم فألقوه {فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} وإلى الناس أجمع {مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} 66 فرأوا الأرض امتلأت حيات وروابي، وأخذوا أعين الناس بما صاروا يدمدمون، حتى بهت الكل مما رأوا وتطاولت أعناق فرعون وملئه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى} 67 من أن يلتبس على الناس الأمر فيصدقوا بعمل السحرة ويشكوا في أمره، لأن ما جاءوا به من جنس معجزة موسى من جهة العصا وزيادة عليها الأخشاب والحبال التي صارت كالجبال، فأوحى إليه ربه بأمره {قُلْنا لا تَخَفْ} مما تصورته ورآه الناس من عمل السحرة {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} 68 القائمة بالعلو عليهم، الظافر الغالب حسبما هو مقدر في أزلنا ولأجل أن يعلم الناس والملك واتباعه غلبك عليهم وصدقك ويؤمنوا أن ما جاء به السحرة شعوذة لا قيمة لها، لأنها زائلة، وأن ما جئت به هو من عند اللّه لا سرية فيه، وليذهب من قلوب الناس ما تصوروه وما القى من الخوف في قلبك خشية ميل الناس إليهم وتصديقهم، ولاظهار إخفاقهم {أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ} عصاك لم يسمها تعظيما لها وليعلمه أنها أعظم مما جاءوا به كله ثم بشره ليزداد طمأنينة بقوله {تَلْقَفْ ما صَنَعُوا} من الإفك الذي سحروا به أعين الناس، فتلتقم الزئبق الذي دسوه فيها حتى أروهم الحبال والعصي حيات، والأخشاب جبالا وتبتلعه، وأكّد له هذا على طريق الحصر بقوله عز قوله: {إِنَّما صَنَعُوا} من إراءة الجبال حيات والأخشاب جبالا هو {كَيْدُ ساحِرٍ} حيله ومكره لا حقيقة لها، وكل عمل يقوم به الساحر غير دائم {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} 69 أينما أقبل وحل فتكون عاقبته الخسران والخيبة، فألقاها فكان ما كان كما أخبر اللّه، فعجب الناس وذهب بهم العجب أقصاه إلى حد لم يخطر ببال، ولم يتصوره أحد، ورأى السحرة ما هالهم أمره، وتيقنوا أن هذا من قبل اللّه، وأن موسى ليس بساحر، فلم يسعهم إلا أن وقعوا على الأرض خاضعين للّه مخبتين كما أخبر عنهم بقوله عز قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} على الأرض وبلسان واحد {قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى} 70 وانقدنا لأمرهما، وأخر موسى رعاية لسجع الآي، على أن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا أي برب موسى وهرون، كما مر في سورة الأعراف في الآية 122 التي ذكرنا فيها هذه القصة إلا انها كررت هنا بأوسع مما هناك. .مطلب قوة الإيمان وثمرته: قال جار اللّه الزمخشري سبحان اللّه ما أعجب أمرهم. قد القوا حبالهم وعصيهم والجحود ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة بالشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! فذهب الغيظ بفرعون أقصاه {قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} بالإيمان به ولهذا أقول {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وأنتم تلاميذه فيه {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس مبالغة في الضرر {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} جزاء عملكم هذا، وفي هنا دالة على الاستعلاء لأن حروف الجر تخلف بعضها كما قدمناه في تفسير الآية 104 من سورة الأعراف المارة {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا} نحن فرعون ملك مصر أم موسى وهرون الذين آمنتم بهما {وَأَبْقى} 71 أدوم هددهم بهذا لأنهم خذلوه خذله اللّه وعلى أمل أنهم يرجعون عن إيمانهم {قالُوا} بلا خوف ولا جزع {لَنْ نُؤْثِرَكَ} مهما كنت وملكك فلا نفضلك ولا نختارك أبدا {عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ} الواضحات على صدق موسى وأخيه {وَالَّذِي فَطَرَنا} لا نفعل ذلك ولا نرجع عن إيماننا حيث تبين لنا أنك مبطل بدعواك الربوبية وأن إله موسى هو الإله الحق الذي لا رب غيره لهذا الكون وقد اقسموا على أحقية موسى لأنهم رأوا الحق معه وقد حلت بهم الهداية ومن يهد اللّه فلا مضل له، وجواب القسم مقدم عليه وهو لن نؤثرك ويجوز العطف على ما جاءنا وعليه يكون المعنى لن نختارك على ما جاءنا ولا نختار عبادتك على عبادة الذي خلقنا والاول أولى قيل: إنهم لما سجدوا كشف اللّه عن بصيرتهم قرأوا منازلهم في الجنة لذلك صارحوه بقولهم {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} به من تعذيبنا لنلحق بربنا، فإنك {إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} 72 الفانية التي لم يبق لنا بها رغبة ولم تعد تخالج قلوبنا رهبة مما فيها من العذاب بعد أن رأينا من إله موسى ما رأينا {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا} السابقة {وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أيضا لعله يغفره لنا لأنا عرفنا موسى ليس بساحر حين المناظرة معه قبل المباراة، وذلك أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى قائما، فأراهموه، فرأوا عصاه تحرسه، فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره فهذا ليس بساحر، وأرادوا الامتناع عن مناظرته، فأكرههم عليها، ولقد تناجوا فيما بينهم وتنازعوا ولم يلقوا له بالا ولم يؤثر فيهم تهديده، فقالوا {وَاللَّهُ خَيْرٌ} ثوابا وأعظم عقابا منك وَخيره {أَبْقى} 73 وأدوم من خيرك لأنه باق، وخيرك وشرك زائل، والخير الباقي خير من الفاني، والشر الفاني أهون من الباقي وهذه الجملة بمقابلة {أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبْقى} قال الحسن رض اللّه عنه سبحان اللّه لقوم كفارهم أشد الكافرين كفرا ثبت في قلوبهم الإيمان بطرفة عين، ولم يتعاظم عندهم أن قالوا لفرعون في أبهته {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} في ذات اللّه، واللّه أن أحدهم يريد أهل زمانه اليوم ليصحب القرآن ستين عاما ثم يبيع دينه بشيء حقير.هذا قوله رضي اللّه عنه في زمنه قبل ألف ومئتى سنة وكسور، فكيف بأهل زماننا هذا الذي عمّت فيه البلايا وكسرت به الرزايا، وقل فيه الحياء، وازداد فيه العناء وكثر فيه الشقاء، فالتّقي يعاب، والشقي يهاب، وصاحب الحق مقصور، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم، ثم أنظر رعاك اللّه كيف تنورت بصائرهم إذ قالوا له {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} بما اكتسبه من أعمال قبيحة في هذه الدنيا {فَإِنَّ لَهُ} في الآخرة جزاء إجرامه {جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها} فيستريح من عذابها {وَلا يَحْيى} 74 حياة طيبة تركن نفسه إليها، تقدم نظيرتها من الآية 13 من سورة الأعلى المارة {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} في الآخرة {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ} في دنياه علاوة على إيمانه {فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى} 75 ثم بين هذه الدرجات بقوله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} خلود دائمة كثيرة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها} أبدا لا تحول لهم عنها وذلك الجزاء الحسن عند اللّه {جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى} 76 في دنياه وتطهر من الشرك والمعاصي.عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء» وفي رواية: «كما ترون الكوكب الدريّ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» يقال فلان أحسن من فلان وأنعم أي أفضل، يعنى أن أبا بكر وعمر منهم وازداد تناهيا إلى الغاية فهما أهل لهذا، انتهى ما حكى اللّه عن هؤلاء السحرة البررة أهل التقوى وأهل المغفرة الذين أصبحوا كفارا وأمسوا أبرارا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى} بعد أن حصل له اليأس من إيمان فرعون لعدم تأثير تلك الآيات العظام فيه وهي المار ذكرها في الآية 129 فما بعدها من سورة الأعراف بعد آيتي العصا واليد المارتين قلبها، ثم بين ذلك الإيحاء بقوله عز قوله: {أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي} بني إسرائيل واترك فرعون وقومه لأنه مصر على الكفر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} لا ماء فيه ولا طين بمجرد ضربك يكون كذلك، ثم سر أنت وإياهم فيه {لا تَخافُ دَرَكًا} من فرعون وقومه إن يلحقوكم {وَلا تَخْشى} 77 غرقا فيه أنت ولا قومك، فامتثل أمر ربه وامر بني إسرائيل فتهيأوا وسار بهم إلى جهة البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} حين بلغه أمرهم ولكنه لم يلحقهم حتى دخلوا البحر كلهم، فدخله على أثرهم هو وجنوده فصار بنو إسرائيل يخرجون من الطرف الآخر والقبط يدخلون من طرفه الأول، لذلك بقي منفرجا حتى لم يبق من بني إسرائيل نسمة فيه، ولم يبق أحد من قوم فرعون خارجه، لأن بني إسرائيل لما لحقهم القبط بقوا سائرين في البحر وتعقبهم القبط حتى توسطوه ليتم مراد اللّه، فأطبقه عليهم دفعة واحدة، وذلك قوله تعالى، {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ} 78 كلمة تهويل لكيفية الفرق الذي أصابهم فعلاهم وغمرهم بأمواجه وزبده الناشئ من شدة تلاطم أمواجه بسبب انهيار المياه بعضها على بعض التي كان اللّه أوقفها كالجبال الشامخة، حيث شق منها اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق كما سيأتي بيانه في الآية 60 فما بعدها من سورة الشعراء الآتية، لذلك، بقي منفرجا على حاله ولم ينطبق شيئا فشيئا.قال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} 79 نفسه ولا قومه الصواب وأكذب اللّه قوله: {وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ} كما سيأتي في الآية 29 من سورة المؤمن من ج 2، ونجى اللّه موسى وقومه وصدق له وعده بإهلاك عدوه وإعلاء كلمته، ثم شرع يعدد نعمه على بني إسرائيل فقال: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} فرعون وقومه الذين استرقوكم وأذلوكم {وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} حيث وعد اللّه موسى أنه يأتيه في ذلك المكان المبارك والبقعة المقدسة لينزل عليه التوراة، وإنما نسب المواعدة إليهم لأن منافعها لهم إذ فيها عزهم وفوزهم وشريعتهم ومعالم دينهم {وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} 80 راجع ماهيتها في الآية 160 من سورة الأعراف المارة، وقلنا لهم حينما طلبوا منا في التيه أكلا وشربا {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} من لذاته وحلاله واشربوا من الماء الذي انبعته لكم من الصخرة وتظللوا بالغمام الذي سخرناه لكم من دون كسب ولا تعب، ولذلك سماه اللّه طيبا إذ لم تتطرق إليه الشبهة {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} فتتجاوزوا الحد الذي سننّاه لكم فتبطروا بسبب هذا الرزق الطيب المبارك فتكفروا بنعمته بعدم الشكر والرضاء أو تتقووا فيه على المعاصي فيزول عنكم {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} عقوبتي لعدم تقديركم فضلي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى} 81 في النار وهلك هلاكا لا نجاة بعده {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} كثير المغفرة كما إني شديد العقوبة على الكافر عظيم العفو {لِمَنْ تابَ} من الشرك والمعاصي {وَآمَنَ} بي وبرسولي وكتابي {وَعَمِلَ صالِحًا} بأداء ما فرضته عليه والشكر بما أنعمت به عليه {ثُمَّ اهْتَدى} 82 بقي مستقيما على الحق شاكرا للنعم حتى الوفاة، ثم أن موسى عليه السلام أمر قومه بالدوام على عبادة اللّه وأوصى أخاه هرون بمراقبتهم على النحو المبين في الآية 143 من سورة الأعراف المارة واختار جماعة من أشراف قومه ليذهب بهم إلى مناجاة ربه وتلقي التوراة الشريفة حسبما أمره بذلك وتقدمهم على أن يأتوا بعده على أثره، ولما وصل وناجاه ربه بقوله {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى} 83 وقد اخترتهم بأمرى، وأمرتك أن تأتي بهم معك لأشرفك بكتابي {قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي} مقبلين إليك يا رب {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ} فقد مر عليهم يا {رَبِّ لِتَرْضى} 84 عليّ زيادة على رضاك وكان تقدمه عليهم بسائق شدة شوقه إلى مناجاة ربه، وأمرهم أن يتبعوه دون توان، وهذا هو الميقات الأول الذي ذكره في الآية 143 من سورة الأعراف المارة، ولا ميقات غير هذين، وقال بعض العلماء إن المواقيت أكثر من اثنين وأوصلها بعضهم إلى ستة، ولكن لم أقف على ما يثبت ذلك، لأن المواقيت التي عينها اللّه لموسى هي عبارة عن ميقات تلقي التوراة وميقات طلب المغفرة عن الذين عبدوا العجل فقط، أما المواقيت التي ناجى بها ربه عفوا فقد تزيد على ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة عند ذكر الآيات التي فيها ذكر الميقات إن شاء اللّه، وبينما سيدنا موسى ينتظر تشريفه بكلام ربه من أجل التوراة، وقد مضت ايام ولم تأت جماعته الذين اختارهم للحضور معه، إذ باغته ربه بقوله جل قوله: {قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} بسبب استعجالك ذلك {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} 85 موسى بن ظفر وكان منافقا مظهرا للإسلام، وهو من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة الموجود بقاياهم الآن في جبل نابلس، قيل إنهم أربعون بيتا لم يزيدوا ولم ينقصوا حتى الآن حيث صاغ لهم عجلا وزعم أنه آلهتهم وأمرهم بعبادته راجع كيفية صياغته وإضلالهم به في الآية 148 من سورة الأعراف المارة، وإضافة الإضلال إلى السامري من قبيل اضافة الأشياء إلى مسبب في الظاهر، أما في الحقيقة فإن الموجد لها في الأصل هو اللّه تعالى وحده.ثم أمره اللّه أن يعود إليهم وينقذهم مما هم فيه،لأنهم عكفوا على عبادته ولم يصغوا، لقول هرون ونقبائهم، قال تعالى حكاية عن حال موسى عليه السلام بعد أن أنزل عليه التوراة الشريفة وأسمعه ما أسمعه من أمر قومه {فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا} شديد الغضب على ما فاته من كلام ربه وعلى ما وقع من قومه، وكان حاملا صحف التوراة كما تفيده الآية 151 من سورة الأعراف المارة، ولما وصل {قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} بإنزال الكتاب عليكم، قيل كانت ألف سورة وكل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا إلا أن ظاهر القرآن يخالفه ويفيد أن موسى حملها، بدليل قوله: {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} في الآية المارة وقوله {أَخَذَ الْأَلْواحَ} في الآية 152 من الأعراف أيضا.ثم قال موبخا صنيعهم {أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} بمفارقتي حتى فعلتم ما فعلتم، ألم أترك عندكم من تسترشدون به، أعصيتم أمره، واشتد غضبه حتى ألقى الألواح على الأرض، وزاد في تقريعهم فقال: {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} 86 الذي أعطيتمونيه بأنكم تبقون على ديني حتى أرجع من ميقات ربي {قالُوا} الذين عبدوا العجل {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا} باختيارنا لأن السامري غلب على أمرنا بكيده ولو أنا ملكنا أمرنا لما خالفناك، وأن الذي يفتن لا يملك نفسه {وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزارًا} أثقالا هو الحلي الذي استعرناه {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} القبط حين خرجنا من مصر فعدها السامري علينا أوزارا وجمعه منا، وأوقد نارا وألقاه فيها، وبقينا ننتظرك حتى تحضر فنرى رأيك فيه، ولم نعلم ما يكنّه لنا ولا ما يؤول إليه أمر الحلي {فَقَذَفْناها} في تلك النار تبعا لأمره {فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} 87 ما معه في النار أيضا على زعمنا أن ما ألقاه من الحلي، ولم نعلم أنه من تراب وطء فرس جبريل عليه السلام الذي كان احتفظ به قبلا لهذه الغاية {فَأَخْرَجَ لَهُمْ} للقائلين المذكورين {عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ} صراخ وذلك بعد أن صاغ العجل من الحلي وضع فيه ذلك التراب {فَقالُوا} للسامري وجماعة من بني إسرائيل الذين انقادوا إليه {هذا} العجل الذي ظهر لكم من من حلي القبط {إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى} الذي ذهب إليه {فَنَسِيَ} 88 غفل موسى عنه هنا، وذهب إلى الطور بطلبه، قال تعالى مبكتا قلة عقولهم {أَفَلا يَرَوْنَ} يا موسى هؤلاء الجهلة العتاة {أَلَّا يَرْجِعُ} أن العجل الذي صاغه لهم السامري لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلًا} إذا كلموه، ولا يجيبهم إذا دعوه {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا} بدفعه عنهم {وَلا نَفْعًا} 89 بجلبه إليهم فكيف يعتقدون إلهيته {وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ} عبادتهم له عند ما أرادوا العكوف عليه حال وجودك في المناجاة {يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ} بإضلال السامري لكم بأنه إله فأعرضوا عنه فإنه ليس بشيء بعد {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} الذي هو أهل لأن يعبد وخص الرحمن من أسمائه تعالى ليستميلهم عنه ويعلمهم أنهم إذا رجعوا يغفر لهم ما فرط منهم {فَاتَّبِعُونِي} على دين الحق دين موسى، واتركوه فإنه ليس بإله ولا يليق أن يكون إلها {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} 90 فيما نهيتكم عنه، تأمل أيها القارئ هل ترى أحسن من هذا الوعظ؟ بدا بزجرهم، ثم دعاهم إلى معرفة اللّه، ثم إلى معرفة النبوة، ثم إلى اتباع الشرع، وانظر كيف قابلوه {قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} 91 فاعتزلهم هرون، والذين لم يشتركوا معهم في العبادة وقد سبب هذا الحادث تخلف الوفد الذي انتقاه موسى بحضور إنزال التوراة، بعد أن أخبر اللّه موسى بهذا الحادث رجع إلى قومه حاملا التوراة، فسمع صراخهم، فقال هذا صوت الفتنة التي أخبرني بها ربي، ورأى أخاه هرون واقفا مع جماعته بعيدا عنهم، فألقى التوراة وبادر فأخذ شعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله {قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ} من المجيء إليّ واخباري بما فعلوا {إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} 92 عن الهدى وعبدوا العجل ولم يصغوا لنهيك {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} حالا فتعلمني بفعلهم {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 93 بوجوب القيام بما يعلمهم؟ وهذا أمر عظيم كان يجب عليك أن تتداركه قبل كل شي {قالَ يَا بْنَ أُمَّ} يستعطفه ويسترحمه ليكف عنه، ولم يقل يا بن أبي لما قاست أمه من الهم والغم والخوف بسببه، فيحمله على العطف عليه فقال تلطف بي {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} لأني لم آل جهدا بنصحهم وصدهم، فقد أمرتهم وزجرتهم فلم يقبلوا مني {إِنِّي خَشِيتُ} إن تركتهم على ما هم عليه وأتيتك {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ} لأنهم صاروا حزبين حزبا معي وحزبا مع السامري وبقيت معهم خوفا من أن تقول لي تركتهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} 94 تراعيه وتعمل بوصيّتي فيهم، لأني رأيت من المصلحة بقائي بينهم حتى لا يتقاتلوا من من أجل عبادته، وأن لا يلحق من لم يعبده إلى من عبده.فلما رأى موافقة قوله للواقع وإنه لم يقصر في مهمته، تركه، وأقبل على السامري {قالَ فَما خَطْبُكَ} الخطب هو الأمر العظيم الذي يكثر التخاطب فيه وهو مقلوب الخبط ففيه اشارة لعظم خبط السامري في الأمر، أي ما حملك على ما فعلت {يا سامِرِيُّ} 95 أصدقني {قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} علمت شيئا لم يعلمه بنو إسرائيل {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ} فرس {الرَّسُولِ} جبريل لأني رأيت المحل الذي يدوسه يخضر حالا، فعلت أن لذلك شأنا، وهذا هو الذي أشار إليه عن بني إسرائيل في قوله ما لم يبصروا به أي لم يفقهوه ولم يلقوا له بالا {فَنَبَذْتُها} أي تلك القبضة في جوف العجل الذي صنعته من حليّ القبط التي كانت مع بني إسرائيل جمعتها وألقيتها في حفرة لحضورك، كي ترى رأيك فيها ثم عنّ لي أن أصوغها عجلا، ففعلت ثم طرحت فيها ذلك التراب فدبت فيها الحياة وصرخ فقلت لهم هذا هو إله موسى الذي ذهب إليه فعكفوا عليه وصاروا يسجدون له كلما صاح، وكان ما كان على النحو الذي تقدّم في القصة في تفسير الآية 48 من الأعراف {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} 96 وزينته ولم يسبقني على ذلك أحد بل من اختراعي هذا ما أخبر به عدو اللّه السامري من صياغة العجل فمن أين جاز اليهود تحريفه ونسبته إلى هرون، وحاشاه، كما جاء في الإصحاح 22 من التوراة في فصل الخروج، لأن اللّه أخبرنا بأن هرون براء من ذلك، وأن السامري معترف به، واللّه أصدق القائلين.وهذا من جملة التحريف الذي أوقعه اليهود وأخبرنا اللّه عنه في القرآن {قالَ} موسى بعد أن سمع قوله: {فَاذْهَبْ} من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ} ما عشت {أَنْ تَقُولَ} لمن يريد أن يقربك ولم يعرفك {لا مِساسَ} لا تمسني، وذلك أن موسى عليه السلام حرم على الناس ملاقاته، ومكالمته، ومبايعته، ومخالطته ومقاربته، فصار يهيم بالبرية مثل الهوام ورماه اللّه بداء عضال عقام، فكان إذا لمسه أحد أو لمس أحدا صمّا جميعا، ولذلك نهى عن مقاربته ولمسه وهذه عقوبته في الدنيا وهي عقوبة وحشة جدا لا أعظم منها، لأن الناس تحاموا عنه بالكلية وتقذروه قال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} في الآخرة فستوافيه حتما وتذوق العذاب الأكبر على فعلتك هذه {وَانْظُرْ} أيها الخبيث المضل {إِلى إِلهِكَ} الذي صنعته {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا} أنت ومن تبعك وداومتم على عبادته، وأصل ظلت بلامين حذفت الثانية تخفيفا وقرأت بكسر الظاء بنقل حركة ما بعدها إليها أي أقسمت على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ} نذريه أمامك وأمامهم {فِي الْيَمِّ نَسْفًا} 97 لتعلموا أنه ليس بشيء ويظهر لكم ضلالكم فيه ثم شرع يوضح لهم الدين الحق فقال: {إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ} وحده الذي يجيب دعاءكم، ويدفع ضركم، ويجلب لكم الخير {الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} خالق الكون وما فيه، ومالك أمر الخلق المحي المميت المستحق العبادة والتعظيم، لا معبود سواه، ولا رب إلا إياه، الذي أنجاكم من الغرق وأغرق أعدائكم بآن واحد، الذي {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} 98 أي وسع علمه كل شيء، لأن علما تمييز محول عن الفاعل وإلى هنا ما يتعلق بالميقات الاول.
|