الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (38- 40): وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض...} الآية: خَبَرٌ مضمَّنه الرَّدُّ على اليَهُودِ الذين قالوا: إنَّ اللَّه خلق الأشياء كلها، ثم استراح يَوْمَ السبت، فنزلت: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} واللُّغُوب: الإعياء والنَّصَبُ. وقوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي: ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب وغيرِهم، وعَمَّ بذلك جميعَ الأقوال الزائِغَةِ من قريش وغيرهم {وَسَبِّحْ} معناه: صَلِّ بِإجماعٍ من المتأولين. * ت *: وفي الإِجماع نظر؛ وقد قال الثعلبيُّ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} أي: قل سبحان اللَّه والحمدُ للَّه؛ قاله عطاء الخُرَاسَانِيُّ، انتهى، ولكن المخرَّجُ في الصحيح إنما هو أمر الصلاة، وقال ابن العربيِّ فيأحكامه: قوله تعالى: {وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ} فيه أربعة أقوال: أحدها: أَنَّه تسبيحُ اللَّهِ في الليل، ويَعْضُدُ هذا القولَ الحديثُ الصحيحُ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ» الحديثَ، وقد ذكَرْنَاهُ في سورة المزمل. والثاني: أنَّها صلاةُ الليل. والثالث: أَنَّها ركعتا الفجر. والرابع: أَنَّها صلاة العشاء الآخرة، انتهى. وقوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} الباء للاقتران، أي: سَبِّح سبحة يكون معها حَمْدٌ، و{قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} هي الصبح، {وَقَبْلَ الغروب}: هي العصر؛ قاله ابن زيد والناس، وقال ابن عباس: الظهر والعصر، {وَمِنَ اليل}: هي صلاة الْعِشَاءَيْنِ، وقال ابن زيد: هي العشاء فقط، وقال مجاهد: هي صلاة الليل. وقوله: {وأدبار السجود} قال عمر بن الخطاب وجماعة: هي الرَّكْعَتَانِ بعد المغرب، وأَسنده الطبريُّ عن ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال * ع *: كَأَنَّهُ رُوعِيَ أَدبارُ صلاة النهار، كما رُوعي أدبار النجوم في صلاة الليل، وقال ابن عباس أيضاً، وابن زيد، ومجاهد: هي النوافل إثر الصلوات، وهذا جارٍ مع لفظ الآية، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة: {وَإدْبَارَ} بكسر الهمزة، وهو مصدر، وقرأ الباقون بفتحها، وهو جمع دُبُر؛ كطُنُب وأَطْنَاب، أي: وفي أدبار السجود، أي: في أعقابه. .تفسير الآيات (41- 45): وقوله سبحانه: {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} واستمع بمنزلة: وانتظر، وكذا، أي: كُنْ مُنتظراً له، مستمعاً له، فعلى هذا فَنَصْبُ {يوم} إنَّما هو على المفعول الصريح. وقوله سبحانه: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قيل: وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق، ورُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَلَكاً يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: أَيَّتُهَا الأَجْسَامُ الْهَامِدَةُ، وَالْعِظَامُ الْبَالِيَةُ، وَالرِّمَمُ الذَّاهِبَةُ هَلُمِّي إلَى الْحَشْرِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» والصيحة: هي صيحة المنادي، والخروج: هو من القبور، ويومُه هو يومُ القيامة، ويومُ الخروج في الدنيا: هو يوم العيد. وقوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}: معادل لقول الكفرة: {ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق: 3]. وقوله سبحانه: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} وعيد محض للكفرة. وقوله سبحانه: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} قال الطبري وغيره: معناه: وما أنت عليهم بمُسَلَّطٍ، تُجْبِرُهُمْ على الإيمان. وقال قتادة: هو نهيٌ من اللَّه تعالى عن التجبر، والمعنى: وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت، وروى ابن عباس أَنَّ المؤمنين قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ خَوَّفْتَنَا! فَنَزَلَتْ: {فَذَكِّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ}. .تفسير سورة والذاريات: بسم الله الرحمن الرحيم .تفسير الآيات (1- 7): قوله عز وجل: {والذريات ذَرْواً...} الآية، أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات؛ تنبيهاً عليها، وتشريفاً لها، ودَلاَلَةً على الاعتبار فيها، حَتَّى يصيرَ الناظرُ فيها إلى توحيد اللَّه عز وجل، فقوله: {والذريات}: هي الرياح بإجماعٍ و{ذَرْواً} نُصِبَ على المصدر، و{فالحاملات وِقْراً} قال عليٌّ: هي السحاب، وقال ابن عباس وغيره: هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم، وقال جماعة من العلماء: هي أيضاً مع هذا جميع الحيوانِ الحامل، وفي جميع ذلك مُعْتَبَرٌ، و{فالجاريات يُسْراً} قال عليٌّ وغيره: هي السفن في البحر، وقال آخرون: هي السحاب، وقال آخرون: هي الكواكب؛ قال * ع *: واللفظ يقتضي جميعَ هذا، و{يُسْراً} نعت لمصدر محذوف، وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالاً، و{يُسْراً} معناه: بسهولة و{فالمقسمات أَمْراً}: الملائكة، والأمر هنا: اسم جنس، فكأَنَّه قال: والجماعات التي تقسم أمورَ الملكوت، من الأرزاق، والآجال، والخلق في الأرحام، وأمر الرياح والجبال، وغير ذلك؛ لأَنَّ كُلَّ هذا إنَّما هو بملائكة تخدمه، وأَنَّثَ {فالمقسمات} من حيث أراد الجماعات، وهذا القَسَمُ واقع على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق...} الآية، و{تُوعَدُونَ} يحتمل أنْ يكونَ من الوعد، ويحتمل أَنْ يكون من الإيعاد، وهو أَظهر، و{الدين}: الجزاء، وقال مجاهد: الحساب. ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر، فقال: {والسماء ذَاتِ الحبك} والحُبُكُ: الطرائق التي هي على نظامٍ في الأجرام، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريحُ: حبك، ويقال لِتَكَسُّرِ الشعر: حُبُك، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائِقُ في موضع تداخل الخيوط هي حبك؛ وذلك لجودة خِلْقَةِ السماء؛ ولذلك فَسَّرَها ابن عباس وغيره بذات الخلق الحَسَنِ وقال الحسن: حُبُكُهَا كَوَاكِبُها. .تفسير الآيات (8- 12): وقوله سبحانه: {إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} يحتمل أنْ يكون خطاباً لجميع الناس، أي: منكم مؤمن بمحمد، ومنكم مُكَذِّبٌ له، وهو قول قتادة، ويحتمل أَنْ يكونَ خطاباً للكفرة فقط؛ لقول بعضهم: شاعر، وبعضهم: كاهن، وبعضهم: ساحر، إلى غير ذلك؛ وهذا قول ابن زيد. و{يُؤْفَكُ} معناه: يُصْرَفُ، أي: يصرف من الكفار عن كتاب اللَّه مَنْ صُرِفَ مِمَّنْ غلبت عليه شَقَاوَتُهُ، وعُرْفُ الاستعمال في أفك إنَّما هو في الصرف من خير إلى شَرٍّ. وقوله تعالى: {قُتِلَ الخراصون} دعاءٌ عليهم؛ كما تقول: قاتلك اللَّه، وقال بعض المفسرين. معناه: لُعِنَ الخرَّاصون، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ. * ت *: والظاهر ما قاله هذا المُفَسِّرُ؛ قال عِيَاضٌ في الشفا وقد يقع القتل بمعنى اللعن؛ قال اللَّه تعالى: {قُتِلَ الخراصون} و{قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] أي: لعنهم اللَّه، انتهى، وقد تقدَّم للشيخ عند قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} [الفتح: 6] قال: كُلُّ ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عز وجل، فَإنَّما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأَنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، انتهى بلفظِهِ، وظاهِرُهُ مخالف لما هنا، وسيبينه في سورة البروج، والخَرَّاصُ: المُخَمِّنُ القائل بِظَنِّهِ، والإشارة إلى مُكَذِّبي النبي صلى الله عليه وسلم، والغَمْرَةُ: ما يَغْشَى الإنسانَ ويغطيه؛ كغمرة الماء، و{ساهون} معناه: عن وجوه النظر. وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أي: يوم الجزاء، وذلك منهم على جهة الاستهزاء. .تفسير الآيات (13- 17): وقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} قال الزَّجَّاجُ: التقدير: هو كائن يومَ هم على النار يُفَتَنُونَ، و{يُفْتَنُونَ} معناه: يُحْرَقُونَ ويُعَذَّبُون في النار؛ قاله ابن عباس والناس، وفَتَنْتُ الذهبَ أحرقتُه، و{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أي: حرقكم وعذابكم؛ قاله قتادة وغيره. {إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ...} الآية، روى الترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، حتى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ؛ حَذَراً لِمَا بِهِ البَأْسُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: {ءَاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي: مُحَصِّلِينَ ما أعطاهم رَبُّهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ}: يريد في الدنيا {مُحْسِنِينَ}: بالطاعات والعمل الصالح. * ت *: وروى التِّرْمِذِيُّ عن سعد بن أبي وَقَّاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السموات والأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ، فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ؛ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» انتهى، ومعنى قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} أَنَّ نومهم كان قليلاً؛ لاشتغالهم بالصلاة والعبادةِ، والهجوعُ: النومُ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابَدُوا قيامَ الليل، لا ينامون منه إلاَّ قليلاً، وأَمَّا إعرابُ الآية فقال الضَّحَّاكُ في كتاب الطبريِّ: ما يقتضي أنَّ المعنى: كانوا قليلاً في عددهم، وتَمَّ خبرُ كان، ثم ابتدأ {مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} فما نافية و{قَلِيلاً} وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدريَّةٌ و{قَلِيلاً} خبرُ {كَانَ}، والمعنى: كانوا قليلاً من الليل هجوعُهُم، وعلى هذا الإعراب يجيء قولُ الحسن وغيرِهِ، وهو الظاهر عندي أَنَّ المراد كان هُجُوعُهُمْ من الليل قليلاً؛ قيل لبعض التابعين: مَدَحَ اللَّهُ قوماً {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} ونَحْنُ قليلاً من الليل ما نقوم! فقال: رَحِمَ اللَّهُ امرأً رقد إذا نعس، وأطاع رَبَّه إذا استيقظ. .تفسير الآيات (18- 21): وقوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال الحسن: معناه: يدعون في طَلَبِ المغفرة، ويُرْوَى أَنَّ أبوابَ الجنة تُفْتَحُ سَحَرَ كُلَّ ليلة، قال ابن زيد: السَّحَرُ: السُّدُسُ الآخر من الليل، والباء في قوله {وبالأسحار} بمعنى في؛ قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام ابن الجوزي في المُنْتَخَبِ: يا أخي، علامةُ المَحَبَّةِ طلبُ الخَلْوَةِ بالحبيبِ، وبيداءُ اللَّيل فلواتُ الخلوات، لَمَّا ستروا قيامَ الليل في ظلام الدُّجَى؛ غَيْرَةً أَنْ يَطَّلِعَ الغيرُ عليهم سترهم سبحانه بسترٍ، {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، لَمَّا صَفَتْ خلواتُ الدُّجَى، ونادى أذان الوصال: أقم فلاناً، وأنم فلاناً خرجت بالأسماء الجرائد؛ وفاز الأحبابُ بالفوائد، وأنت غافل راقد. آهِ لو كنتَ معهم! أسفاً لك! لو رأيتهم لأبصرتَ طلائِعَ الصِّدِّيقِينَ في أول القوم، وشاهدتَ سَاقَةَ المستغفرين في الرَّكْبِ، وسَمِعْتَ استغاثة المُحِبِّينَ في وسط الليل،، لو رأيتهم يا غافلُ، وقد دارت كُؤوسُ المناجات؛ بين مزاهر التلاوات، فأسكَرَتْ قَلْبَ الواجدِ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويلَ النوم، فاتتك مِدْحَةُ {تتجافى} [السجدة: 16] وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ {والمستغفرين} [آل عمران: 17]، يا هذا، إنَّ للَّه تعالى ريحاً تُسَمَّى الصَّبِيحَةَ مخزونةً تحتَ العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجَبَّارِ، انتهى. {وَفِى أموالهم حَقٌّ...} الآية، الصحيح أَنَّها مُحْكَمَةٌ وأنَّ هذا الحق هو على وجه الندب، و{مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24] يُرَادُ به: مُتَعَارَفٌ، وكذلك قيامُ الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلةُ بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تَبْعُدُ عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وَفاقَةٌ، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حَقٌّ في أموال الأغنياء، كما للسائل حَقٌّ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا أَيُّها الناسُ مثلَهم وعلى طريقهم، و{فِى الأرض ءايات}: لمن اعتبر وأيقن. وقوله سبحانه: {وَفِى أَنفُسِكُمْ} إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه العِبَرِ، وأمرِ النفسِ، وحياتِهَا، ونطقِها، واتصالِ هذا الجزء منها بالعقل؛ قال ابن زيد: إنَّما القلب مُضْغَةٌ في جوف ابن آدم، جَعَلَ اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صِفَتُه، وكيف هو. * ت *: قال ابن العربيِّ في رحلته: اعلم أَنَّ معرفة العبد نَفْسَهُ من أولى ما عليه وآكدِهِ؛ إذْ لاَ يَعْرِفُ رَبَّه إلاَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ؛ قال تعالى: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وُجُودَ الرُّوحِ من نفسه، وإنْ كان لم يدركْ حقيقتَه، كذلك لا يَقْدِرُ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الباري سبحانه الذي دَلَّتْ أفعاله عليه، وإنْ لم يدركْ حقيقته، انتهى. .تفسير الآيات (22- 23): وقوله سبحانه: {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} قال مجاهد وغيره: هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر، أي: الرزق عند اللَّه يأتي به كيف شاء سبحانه لا رَبَّ غيرُه، و{تُوعَدُونَ} يحتمل أَنْ يكونَ من الوعد، ويحتمل أَنْ يكونَ من الوعيد؛ قال الضَّحَّاكُ. المُرَادُ: من الجنة والنار، وقال مجاهد: المرادُ: الخيرُ والشَّرُّ، وقال ابن سيرين: المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، وما زائدة تعطي تأكيداً، والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال: مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ، وسبل الخيرات، ورُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ قَوْماً، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ» ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ» وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب القصد إلى اللَّه سبحانه للْمُحَاسِبِيِّ: قال: قلتُ لشيخنا: من أين وقع الاضطرابُ في القلوب، وقد جاءها الضمانُ من اللَّه عز وجل؟ قال: من وجهين. أحدهما: قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظَّنِ، وإلقاءِ التُّهَمِ عن اللَّه عز وجل. والوجه الثاني: أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت، فتستجيبَ النفسُ للداعي، ويَضْعُفَ اليقينُ، ويَعْدِمَ الصبرُ، فيظهرَ الجَزَعُ. قلتُ: شيءٌ غيرُ هذا؟ قال: نعم، إنَّ اللَّه عز وجل وَعَدَ الأرزاق، وضَمِنَ، وغَيَّبَ الأوقات؛ ليختبرَ أهلَ العقول، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكِّلِين، لكنَّ اللَّه عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم، وحَلَفَ لهم على ذلك، وغَيَّبَ عنهم أوقاتَ العطاء، فَمِنْ ها هنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ، وتفاوت العبادُ في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم كما علمتَ ساكنٌ، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جَزِعٌ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اهـ.
|