الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **
وأظهر الأقوال التي يزول بها الإشكال في الآية: هو ما ذكره أبو عبيد ونسبه القرطبي في تفسيره لجمهور العلماء أن قوله تعالى: فالحاصل أن آية {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قوله تعالى: وتدل هذه الآيات بدلالة الالتزام على أنه ينقص أيضًا. لأن كل ما يزيد ينقص، وجاء مصرحًا به في أحاديث الشفاعة الصحيحة كقوله: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من إيمان" ونحو ذلك. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قوله تعالى: ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ألقى النعاس على المؤمنين ليجعل قلوبهم آمنة غير خائفة من عدوها، لأن الخائف الفزع لا يغشاه النعاس، وظاهر سياق هذه الآية أن هذا النعاس ألقي عليهم يوم بدر، لأن الكلام هنا في وقعة بدر، كما لا يخفى. وذكر في سورة آل عمران أن النعاس غشيهم أيضًا يوم أحد، وذلك في قوله تعالى في وقعة أحد: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاء وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} قوله تعالى: المراد بالفتح هنا في هذه الآية عند جمهور العلماء: الحكم وذلك أن قريشًا لما أرادوا الخروج إلى غزوة بدر تعلقوا بأستار الكعبة، وزعموا أنهم قطان بيت الله الحرام، وأنهم يسقون الحجيج، ونحو ذلك، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم: فرق الجماعة، وقطع الرحم، وسفه الآباء، وعاب الدين، ثم سألوا الله أن يحكم بينهم، وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم، بأن يهلك الظالم منهم، وينصر المحق. فحكم الله بذلك وأهلكهم، ونصره، وأنزل الآية، ويدل على أن المراد بالفتح هنا الحكم. أنه تعالى أتبعه بما يدل على أن الخطاب لكفار مكة، وهو قوله: ومنه قول الشاعر: ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني
أي عن حكومتكم وقضائكم، أما ما ذكره بعض أهل العلم من أن الخطاب في قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} للمؤمنين. أي تطلبوا الفتح والنصر من الله، وأن الخطاب في قوله بعده: قوله تعالى: أمر تعالى الناس في هذه الآية الكريمة أن يعلموا: أن أموالهم وأولادهم فتنة يختبرون بها، هل يكون المال والولد سببًا للوقوع فيما لا يرضى الله؟ وزاد في مواضع آخر أن الأزواج فتنة أيضًا، كالمال والولد، فأمر الانسان بالحذر منهم أن يوقعوه فيما لا يرضى الله. ثم أمره إن اطلع على ما يكره من أولئك الأعداء الذين هم أقرب الناس له، وأخصهم به، وهم الأولاد، والأزواج أن يعفو عنهم. ويصفح ولا يؤاخذهم. فيحذر منهم أولًا، ويصفح عنهم إن وقع منهم بعض الشيء، وذلك في قوله في التغابن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وصرح في موضع آخر بنهي المؤمنين عن أن تلهيهم الأموال والأولاد عن ذكره جل وعلا، وأن من وقع في ذلك فهو الخاسر المغبون في حظوظه، وهو قوله تعالى: قال ابن عباس، والسدَّي، ومجاهد وعكرمة، والضحاك وقتادة، ومقاتل بن حيان، وغير واحد: فرقانًا مخرجًا، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة، وفي رواية عن ابن عباس فرقانًا: نجاة، وفي رواية عنه: نصرًا. وقال محمد بن إسحاق: فرقانًا. أي فصلا بين الحق والباطل، قاله ابن كثير. قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ قول الجماعة المذكورة: إن المراد بالفرقان المخرج يشهد له قوله تعالى: لأن قوله هنا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّ سُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قوله تعالى: قد بينا قبل هذا الآيات المصرحة بكذبهم، وتعجيز الله لهم عن الإتيان بمثله. فلا حاجة إلى إعادتها هنا، وقوله هنا في هذه الآية عنهم: قوله تعالى: ذكر هنا في هذه الآية الكريمة ما يدل على أن كفار مكة في غاية الجهل حيث قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا}، ولم يقولوا فاهدنا إليه، وجاء في آيات أخر ما يدل على ذلك أيضًا كقوله عنهم: صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بنفي ولاية الكفار على المسجد الحرام، وأثبتها لخصوص المتقين، وأوضح هذا المعنى في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. قوله تعالى: المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، قال بعض العلماء: والمقصود عندهم بالصفير والتصفيق التخليط حتى لا يسمع الناس القرآن من النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويدل لهذا قوله تعالى: ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أولًا، ولكنه تعالى في سورة "الحشر" أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا، وذلك في قوله تعالى: في فيء بني النضير اعلم أولًا أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: في غزوة بني النضير وفيئهم والفيء في الأنفال ما لم يكن أخذ عن قتال أما الغنيمة فعن زحاف والأخذ عنوة لدى الزحاف
لخير مرسل الخ. وقوله: وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل، وقوله: والفيء في الأنفال إلخ كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات، لأن آية وقال بعض العلماء: إن الغنيمة والفيء واحد، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيء، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي: فلا وأبي جليلة ما أفأنا من النعم المؤبل من بعير ولكنا نهكنا القوم ضربا على الأثباج منهم والنحور
يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله: أفأنا: يعني غنمًا، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: المسألة الأولى: اعلم أن جماهير علماء المسلمين على أن أربعة أخماس الغنيمة للغزاة الذين غنموها، وليس للإمام أن يجعل تلك الغنيمة لغيرهم، ويدل لهذا قوله تعالى: {غنمتم}، فهو يدل على أنها غنيمة لهم فلما قال: واحتجوا لذلك بأدلة منها قوله تعالى: أعطى عطايا شهدت بالكرم يومئذ له ولم تجمجم أعطى عطايا أخجلت دلح الديم إذا ملأت رحب الغضا من النعم زهاء ألفي ناقة منها وما ملأ بين جبلين غنما لرجل وبله ما لحلقه منها ومن رقيقه وورقه
الخ قالوا: لو كان يجب قسم الأخماس الأربعة على الجيش الذي غنمها، لما أعطى صلى الله عليه وسلم ألفى ناقة من غنائم هوزان لغير الغزاة، ولما أعطى ما ملأ بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية، وفي ذلك اليوم أعطى الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، وكذلك عيينة بن حصن الفزاري حتى غار من ذلك العباس بن مرداس السلمي وقال في ذلك شعره المشهور: أتجعل نهبي ونهب العبيد بن عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرىء منهما ومن تضع اليوم لا يرفع وقد كنت في الحرب ذا تدرإ فلم أعط شيئًا ولم أمنع إلا أباعير أعطيتها عديد قوائمه الأربع وكانت نهابًا تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم إن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع
قالوا: فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش الغانمين واجبًا، لما فضل الأقرع وعيينة في العطاء من الغنيمة على العباس بن مرداس في أول الأمر قبل أن يقول شعره المذكور. وأجيب من جهة الجمهور عن هذه الاحتجاجات: فالجواب عن آية الأول: أن بعض العلماء زعموا أن مكة لم تفتح عنوة، ولكن أهلها أخذوا الأمان منه صلى الله عليه وسلم. وممن قال بهذا الشافعي رحمه الله. واستدل قائلوا هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وهو ثابت في الصحيح، وهذا الخلاف في مكة هل أخذها النَّبي صلى الله عليه وسلم عنوة؟ وهو قول الجمهور، أو أخذ لها الأمان. والأمان شبه الصلح، عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله: في غزوة الفتح يعني مكة. واختلفوا فيها فقيل أمنت وقيل عنوة وكرهًا أخذت والحق أنها فتحت عنوة كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله. ومن أظهر الأجوبة عما وقع في فتح مكة، أن مكة ليست كغيرها من البلاد، لأنها حرام بحرمة الله من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، وإنما أحلت له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده، وما كان بهذه المثابة، فليس كغيره من البلاد التي ليست لها هذه الحرمة العظيمة. وأما ما وقع في قصة حنين فالجواب عنه ظاهر، وهو أن النَّبي صلى الله عليه وسلم استطاب نفوس الغزاة عن الغنيمة ليؤلف بها قلوب المؤلفة قلوبهم لأجل المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع أن بعض الأنصال قال: يمنعنا ويعطي قريشًا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، جمعهم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكلمهم كلامه المشهور البالغ في الحسن، ومن جملته أنه قال لهم: "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم" إلى آخر كلامه، فرضي القوم، وطابت نفوسهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظًا، وهذا ثابت في الصحيح، ونوه الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بحسن هذا الكلام الذي خاطبهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: في غزوة حنين. ووكل الأنصار خير العالمين لدينهم إذا ألف المؤلفين فوجدوا عليه أن منعهم فأرسل النَّبي من جمعهم وقال قولًا كالفريد المؤنق عن نظمه ضعف سلك منطقي
فالحاصل أن أربعة أخماس الغنيمة التي أوجف الجيش عليها الخيل، والركاب للغزاة الغانمين على التحقيق، الذي لا شك فيه، وهو قول الجمهور. وقد علمت الجواب عن حجج المخالفين في ذلك. ومن العلماء من يقول: لا يجوز للإمام أن ينفل أحدًا شيئًا من هذه الأخماس الأربعة، لأنها ملك للغانمين، وهو قول مالك. وذهب بعض العلماء إلى أن للإمام أن ينفل منها بعض الشيء باجتهاده، وهو أظهر دليلًا، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. * * * المسألة الثانية: هي تحقيق المقام في مصارف الخمس الذي يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة. فظاهر الآية الكريمة أنه يجعل ستة أنصباء: نصيب لله جل وعلا، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القربى، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل. وبهذا قال بعض أهل العلم: قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية الرياحي، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس منها لمن شهدها، ثم يؤخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وعلى هذا القول فنصيب الله جل وعلا يجعل للكعبة، ولا يخفى ضعف هذا القول لعدم الدليل عليه. وقال بعض من قال بهذا القول: إن نصيب الله جل وعلا يرد على ذوي الحاجة. والتحقيق أن نصيب الله جل وعلا، ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم واحد، وذكر اسمه جل وعلا استفتاح كلام للتعظيم، وممن قال بهذا القول ابن عباس، كما نقله عنه الضحاك. وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن محمد بن الحنفية، والحسن البصري، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن بريدة، وقتادة، ومغيرة وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير. والدليل على صحة هذا القول ما رواه البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل، قال: أتيت النَّبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو يعرض فرسًا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال: "لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش" قلت: فما أحد أولى به من أحد، قال: "لا ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم" وهذا دليل واضح على ما ذكرنا. ويؤيده أيضًا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم. فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتناول وبرة بين أنملتيه، فقال: "إن هدى من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم". قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أحمد. هذا عن عبادة بن الصامت، هذا حديث حسن عظيم، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه: ولكن روى الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود، والنسائي من حديث عمرو بن شعيب. عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحوه في قصة الخمس، والنهي عن الغلول. وعن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير. ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" رواه أبو داود، والنسائي. فإذا عرفت أن التحقيق أن الخمس في حياة النَّبي صلى الله عليه وسلم. يقسم خمسة أسهم، لأن اسم الله ذكر للتعظيم، وافتتاح الكلام به، مع أن كل شيء مملوك له جل وعلا، فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يصرف نصيبه، الذي هو خمس الخمس، في مصالح المسلمين. بدليل قوله في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا. "والخمس مردود عليكم"، وهو الحق. ويدل له ما ثبت في الصحيح: من أنه كان يأخذ قوت سنته من فيء بني النضير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما بعد وفاته، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى صلوات الله وسلامه عليه. فإن بعض العلماء يقول بسقوط نصيبه بوفاته. وممن قال بذلك: أبو حنيفة رحمه الله، واختاره بن جرير. وزاد أبو حنيفة سقوط سهم ذوي القربى أيضًا: بوفاته صلى الله عليه وسلم. والصحيح أن نصيبه صلى الله عليه وسلم باق، وأن إمام المسلمين يصرفه فيما كان يصرفه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين. وقال بعض العلماء يكون نصيبه صلى الله عليه وسلم لمن يلي الأمر بعده، وروي عن أبي بكر، وعلي وقتادة، وجماعة، قال ابن كثير: وجاء فيه حديث مرفوع. قالم مقيده: ـ عفا الله عنه ـ والظاهر أن هذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا أنه الصحيح، وأن معنى كونه لمن يلى الأمر بعده، أنه يصرفه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم، والنَّبي قال: "الخمس مردود عليكم" وهو واضح كما ترى. ولا يخفى أن كل الأقوال في نصيب النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. راجعة إلى شيء واحد. وهو صرفه في مصالح المسلمين. وقد كان الخلفاء الراشدون المهديون ـ رضي الله عنهم ـ يصرفونه فيما كان يصرفه فيه صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ يصرفانه في الكراع والسلاح. وجمهور العلماء على أن نصيب ذوي القربى باق، ولم يسقط بموته صلى الله عليه وسلم. واختلف العلماء فيه من ثلاث جهات: الأولى: هل يسقط بوفاته أو لا؟ وقد ذكرنا أن الصحيح عدم السقوط. خلافًا لأبي حنيفة. الثانية: في المراد بذي القربى. الثالثة: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم أو لا؟ أما ذوا القربى: فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. على أظهر الأقوال دليلًا، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم بن خالد. قال البخاري في صحيحه، في كتاب "فرض الخمس". حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب. عن جبير بن مطعم. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بنو المطلب، وبنو هاشم شيء واحد". قال الليث: حدثني يونس وزاد قال جبير: ولم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل، اهـ. وقال البخاري أيضًا في المغازي: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره. قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن بمنزلة واحدة منك، فقال: "إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد"، قال جبير: لم يقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس، وبني نوفل شيئًا اهـ. وإيضاح كونهم من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة: أن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وعثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف. فأولاد عبد مناف بن قصي أربعة: هاشم، والمطلب، وعبد شمس. وهم: أشقاء. أمهم: عاتكة، بنت مرة، بن هلال السلمية، إحدى عواتك سليم. اللاتي هن جدات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن ثلاث: هذه: التي ذكرنا. والثانية: عمتها. وهي: عاتكة، بنت هلال التي هي أم عبد مناف. والثالثة: بنت أخي الأولى. وهي عاتكة، بنت الأوقص، بن مرة، بن هلال، وهي أم وهب، والد آمنة، أم النبي صلى الله عليه وسلم. ورابع أولاد عبد مناف: نوفل. بن عبد مناف، وأمه: واقدة، بنت أبي عدي، واسمه نوفل، بن عبادة بن مازن، بن صعصعة. قال الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب: عبد مناف قمر البطحاء أربعة بنوه هؤلاء مطلب، وهاشم، ونوفل، وعبد شمس، هاشم لا يجهل وقال في بيان عواتك سليم اللآتي هن جدات له صلى الله عليه وسلم: عواتك النَّبي: أم وهب، وأم هاشم، وأم الندب عبد مناف، وذه الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره وهن بالترتيب ذا لذي لرجال الأوقص بن مرة بن هلال
فبهذا الذي بينا يتضح أن الصحيح أن المراد بذي القربى في الآية: بنو هاشم، وبنو المطلب دون بني عبد شمس، وبني نوفل. ووجهه أن بني عبد شمس، وبني نوفل عادوا الهاشميين، وظاهروا عليهم قريشًا، فصاروا كالأباعد منهم. للعداوة، وعدم النصرة. ولذا قال فيهم أبو طالب. في لاميته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمس، ونوفلا عقوبة شر، عاجل، غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه، غير عائل لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا، والغياطل ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصبي في الخطوب الأوائل
بهذا الحديث الصحيح الذي ذكرنا: يتضح عدم صحة قول من قال: بأنهم بنو هاشم فقط. وقول من قال: إنهم قريش كلهم. وممن قال بأنهم بنو هاشم فقط: عمر بن عبد العزيز، وزيد بن أرقم، ومالك، والثوري، ومجاهد وعلي بن الحسين، والأوزاعي، وغيرهم. وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه: عن ابن عباس: أن نجدة الحروري كتب إليه: يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله، فكتب إليه: إنا كنا نرى أناهم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. وزيادة قوله: وقالوا: "قريش كلها" تفرد بها أبو معشر، وفيه ضعف. وما قدمنا من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفعله الثابت في الصحيح: يعين أنهم بنو هاشم، والمطلب، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل، وكثير من أهل العلم. فإذا عرفت أنه صلى الله عليه وسلم قضى بخمس الخمس من غنائم خيبر لبني هاشم والمطلب، وأنهم هم ذوو القربى المذكورون في الآية. فاعلم أن العلماء اختلفوا: هل يفضل ذكرهم على أنثاهم، أو يقسم عليهم بالسوية؟ فذهب بعض العلماء إلى أنه كالميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا هو مذهب أحمد بن حنبل في أصح الروايتين. قال صاحب الإنصاف: هذا المذهب جزم به الخرقي، وصاحب الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والعمدة، والوجيز، وغيرهم. وقدمه في الرعايتين، والحاويين، وغيرهم، وصححه في البلغة، والنظم، وغيرهما. وعنه: الذكر والأنثى. سواء. قدمه ابن رزين في شرحه. وأطلقهما في المغني، والشرح، والمحرر، والفروع، اهـ من الإنصاف. وتفضيل ذكرهم على أنثاهم الذي هو مذهب الإمام أحمد: هو مذهب الشافعي أيضًا. وحجة من قال بهذا القول: أنه سهم استحق بقرابة الأب شرعًا. بدليل أن أولاد عماته صلى الله عليه وسلم، كالزبير بن العوام، وعبد الله بن أبي أمية. لم يقسم لهم في خمس الخمس، وكونه مستحقًا بقرابة الأب خاصة يجعله كالميراث. فيفضل فيه الذكر على الأنثى. وقال بعض العلماء: ذكرهم وأنثاهم سواء. وممن قال به المزني: وأبو ثور، وابن المنذر. قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ وهذا القول أظهر عندي، لأن تفضيل الذكر على الأنثى يحتاج إلى دليل، ولم يقم عليه في هذه المسألة دليل، ولم ينقل أحد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنه فضل ذكرهم على أنثاهم في خمس الخمس. والدليل على أنه ليس كالميراث: أن الابن منهم يأخذ نصيبه مع وجود أبيه، وجده اهـ. وصغيرهم، وكبيرهم سواء. وجمهور العلماء القائلين بنصب القرابة على أنه يقسم على جميعهم. ولم يترك منهم أحد خلافًا لقوم. والظاهر شمول غنيهم. خلافًا لمن خصص به فقراءهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخصص به فقراءهم، بخلاف نصيب اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. فالظاهر أنه يخصص به فقراؤهم، ولا شيء لأغنيائهم، فقد بان لك مما تقدم أن مذهب الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ في هذه المسألة: أن سهم الله، وسهم رسوله صلى الله عليه وسلم واحد. وأنه بعد وفاته يصرف في مصالح المسلمين. وأن سهم القرابة لبني هاشم، وبني المطلب. للذكر مثل حظ الأنثيين، وأنه لجميعهم. غنيهم وفقيرهم، قاتلوا أم لم يقاتلوا، وأن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الأنصباء الثلاثة الباقية لخصوص الفقراء من اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. ومذهب أبي حنيفة: سقوط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم قرابته بموته، وأن الخمس يقسم على الثلاثة الباقية: التي هي اليتامى، والمساكين وابن السبيل. قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة، والجند، وروي نحو هذا عن الشافعي أيضًا. ومذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أن أمر خمس الغنيمة موكول إلى نظر الإمام واجتهاده. فيما يراه مصلحة، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها: وبقول مالك هذا: قال الخلفاء الأربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "مالي مما أفاء الله عليكم إلا لخمس، والخمس مردود عليكم"، فإنه لم يقسمه أخماسًا، ولا أثلاثًا، وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم. لأنهم من أهم من يدفع إليه. قال الزجاج: محتجًا لمالك، قال الله عز وجل: وللرجل جائز بإجماع العلماء أن ينفق في غير هذه الأصناف، إذا رأى ذلك، وذكر النسائي عن عطاء، قال: "خمس الله، وخمس رسوله واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطى منه، ويضعه حيث شاء" اهـ من القرطبي. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: "وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين، كما يتصرف في مال الفيء. وقال شيخنا العلامة ابن تيمية: رحمه الله ـ وهذا قول مالك، وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال اهـ من ابن كثير. وهذا القول هو رأي البخاري بدليل قوله: باب قول الله تعالى: وقال رسول الله: "إنما أنا قاسم، وخازن، والله يعطي" ثم ساق البخاري أحاديث الباب، في كونه صلى الله عليه وسلم قاسمًا بأمر الله تعالى. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا القول قوي، وستأتي له أدلة إن شاء الله في المسألة التي بعد هذا، ولكن أقرب الأقوال للسلامة هو العمل بظاهر الآية، كما قال الشافعي، وأحمد ـ رحمهما الله ـ لأن الله أمرنا أن نعلم أن خمس ما غنمنا. لهذه المصارف المذكورة، ثم أتبع ذلك بقوله: وأما قول بعض أهل البيت. كعبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين رضي الله عنهم: بأن الخمس كله لهم دون غيرهم، وأن المراد باليتامى، والمساكين: يتاماهم، ومساكينهم، وقول من زعم أنه بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم، يكون لقرابة الخليفة الذي يوليه المسلمون، فلا يخفي ضعفهما، والله تعالى أعلم. المسألة الثالثة: أجمع العلماء على أن الذهب، والفضة، وسائر الأمتعة. كل ذلك داخل في حكم الآية: يخمس، ويقسم الباقي على الغانمين، كما ذكرنا. المسألة الرابعة: أما أرضهم المأخوذة عنوة. فقد اختلف العلماء فيها، فقال بعض العلماء: يخير الإمام بين قسمتها، كما يفعل بالذهب، والفضة. ولا خراج عليها. بل هي أرض عشر مملوكة، للغانمين، وبين وقفها للمسلمين بصيغة. وقيل بغير صيغة، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده، وهذا التخيير: هو مذهب الإمام أحمد. وعلى هذا القول: إذا قسمها الإمام، فقيل: تخمس، وهو أظهر، وقيل: لا، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلًا: إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها. والظاهر أن أرض خيبر خمست، كما جزم به غير واحد، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري. وهذا التخيير بين القسم، وإبقائها للمسلمين، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد: هو أيضًا مذهب الإمام أبي حنيفة، والثوري. وأما مالك ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها تصير وقفًا للمسلمين، بمجرد الإستيلاء عليها. وأما الشافعي ـ رحمه الله ـ فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين، بعد إخراج الخمس، وسنذكر ـ إن شاء الله ـ حجج الجميع، وما يظهر لنا رجحانه بالدليل. أما حجة الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ فهي بكتاب وسنة. أما الكتاب، فقوله تعالى: وأما السنة: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم، قسم أرض قريظة، بعد أن خمسها، وبني النضير، ونصف أرض خيبر بين الغانمين. قال: فلو جاز أن يدعي، إخراج الأرض، جاز أن يدعي إخراج غيرها، فيبطل حكم الآية. قال مقيده ـ عفا الله عنه، الاستدلال بالآية: ظاهر، وبالسنة غير ظاهر؛ لأنه لا حجة فيه على من يقول بالتخيير، لأنه يقول: كان مخيرًا فاختار القسم، فليس القسم واجبًا، وهو واضح كما ترى. وحجة من قال بالتخيير: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قسم نصف أرض خيبر، وترك نصفها، وقسم أرض قريظة، وترك قسمة مكة، فدل قسمه تارة، وتركه القسم أخرى، على التخيير. ففي (السنن) و(المستدرك): "أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين؛ النصف من ذلك، وعزل النصف الباقي لمن ينزل به من الوفود، والأمور، ونوائب الناس"، هذا لفظ أبي داود. وفي لفظ: "عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهمًا، وهو الشطر ـ لنوائبه، وما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك: الوطيح، والكتيبة، والسلالم، وتوابعها". وفي لفظ أيضًا: "عزل نصفها لنوائبه، وما ينزل به؛ الوطيحة، والكتيبة، وما أحيز معهما، وعزل النصف الآخر: فقسمه بين المسلمين، الشق، والنطاة، وما أحيز معهما، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما". ورد المخالف هذا الاحتجاج، بأن النصف المقسوم من خيبر: مأخوذ عنوة، والنصف الذي لم يقسم منها: مأخوذ صلحًا، وجزم بهذا ابن حجر في (فتح الباري). وقال النووي في (شرح مسلم) في الكلام على قول أنس عند مسلم: وأصبناها عنوة ما نصه "قال القاضي: قال المازري: ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة، وقد روى مالك، عن ابن شهاب، أن بعضها فتح عنوة، وبعضها صلحًا، قال: وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود، أنه قسمها نصفين: نصفًا لنوائبه، وحاجته، ونصفًا للمسلمين، قال: وجوابه، ما قال بعضهم: إنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما سواها للغانمين، فكان قدر الذي جلوا عنه النصف، فلهذا قسم نصفين اهـ منه بلفظه. وقال أبو داود في (سننه): حدثنا حسين بن علي العجلي، ثنا يحيى ـ يعني ابن آدم ـ، ثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعبد الله بن أبي بكر، وبعض ولد محمد بن مسلمة، قالوا: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يحقن دماءهم، ويسيرهم، ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، ثنا عبد الله بن محمد، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب، أخبره: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتتح بعض خيبر عنوة". قال أبو داود: وقرىء على الحارث بن مسكين، وأنا شاهد؛ أخبرهم ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن ابن شهاب: أن خيبر كان بعضها عنوة، وبعضها صلحًا، والكتيبة أكثرها عنوة، وفيها صلح؛ قلت لمالك: وما الكتيبة؟ قال: أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: وهذا الذي ذكرنا: يقدح في الاحتجاج لتخيير الإمام في القسم، والوقفية بقضية خيبر، كما ترى، وحجة قول مالك ـ رحمه الله ـ ومن وافقه في أن أرض العدو المفتوحة عنوة تكون وقفًا للمسلمين، بمجرد الاستيلاء عليها أمور. منها: قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم"، شهد على ذلك، لحم أبي هريرة ودمه. ووجه الاستدلال عندهم بالحديث: أن: "منعت العراق... الخ" بمعنى ستمنع؛ وعبر بالماضي إيذانًا بتحقق الوقوع، كقوله تعالى: قالوا: فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين، لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز، ولا درهم، ولحديث مسلم هذا؛ شاهد من حديث جابر عند مسلم أيضًا، ومن حديث أبي هريرة أيضًا عند البخاري. وقال ابن حجر في (فتح الباري) في كتاب "فرض الخمس" ما نصه: وذكر ابن حزم: أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة: "منعت العراق درهمها" الحديث. على أن الأرض المغنومة: لا تباع، ولا تقسم، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، ورده بأن الحديث: ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع. واحتجوا أيضًا بما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر". وفي لفظ في الصحيح عن عمر: "أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بيانًا ليس لهم شيء؛ ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النَّبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها". واحتج أهل هذا القول أيضًا. بأن الأرض المغنومة لو كانت تقسم، لم يبق لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله أثبت لمن جاء بعدهم شركة بقوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، فإنه معطوف على قوله: لأنه يقتضي أنه تعالى. أخبر بأن كل من يأتي بعدهم يقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. والواقع خلافه: لأن كثيرًا ممن جاء بعدهم يسبون الصحابة ويلعنونهم، والحق أن قوله: {والذين جاءوا} معطوف على ما قبله، وجملة {يقولون} حال كما تقدم في "آل عمران"، وهي قيد لعاملها وصف لصاحبها. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: هذه الأدلة التي استدل بها المالكية، لا تنهض فيما يظهر، لأن الأحاديث المذكورة لا يتعين وجه الدلالة فيها، لأنه يحتمل أن يكون الإمام مخيرًا، فاختار إبقاءها للمسلمين، ولم يكن واجبًا في أول الأمر، كما قدمنا. والاستدلال بآية الحشر المذكورة: واضح السقوط، لأنها في الفيء، والكلام في الغنيمة، والفرق بينهما معلوم كما قدمنا. قال مقيده: ـ عفا الله عنه ـ أظهر الأقوال دليلًا أن الإمام مخير، ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفًا، وبه تنتظم الأدلة، ولم يكن بينها تعارض، والجمع واجب متى ما أمكن. وغاية ما في الباب: أن تكون السنة دلت على تخصيص واقع في عموم قوله تعالى: وتخصيص الكتاب بالسنة كثير. قال القرطبي في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها، بعد أن ذكر القول بالتخيير: ما نصه: "قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه: وكأن هذا جمع بين الدليلين، ووسط بين المذهبين، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعًا. ولذلك قال: "لولا آخر الناس" فلم يخبر بنسخ فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ ولا بتخصيصه بهم. فإن قيل: لا تعارض بين الأدلة على مذهب الشافعي: لأن ما وقع فيه القسم من خيبر مأخوذ عنوة، وما لم يقسم منها مأخوذ صلحًا، والنضير فيء، وقريظة قسمت. ولو قال قائل: إنها فيء أيضًا؛ لنزولهم على حكم النَّبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحكم فيهم سعدًا، لكان غير بعيد؛ ولكن يرده: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم خمسها، كما قاله مالك، وغيره. ومكة مأخوذة صلحًا؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن". هذا ثابت في صحيح مسلم. فالجواب: أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، ولذلك أدلة واضحة. منها: أنه لم ينقل أحد أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح، ولا جاءه أحد منهم؛ فصالحه على البلد؛ وإنما جاءه أبو سفيان؛ فأعطاه الأمان لمن دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد، أو ألقى سلاحه. ولو كانت قد فتحت صلحًا لم يقل "من دخل داره، أو أغلق بابه، أو دخل المسجد فهو آمن" فإن الصلح يقتضي الأمان العام. ومنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار". وفي لفظ: "إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار". وفي لفظ: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس"، وهذا صريح في أنها فتحت عنوة. ومنها: أنه ثبت في الصحيح، "أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي، ثم قال: يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فجاءوا يهرولون، فقال: يا معشر الأنصار، هل ترون إلى أوباش قريش؟ قالوا: نعم، قال: انظروا إذا لقيتوهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا، وأحفى بيده، ووضع يمينه على شماله، وقال: موعدكم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار، فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش؛ لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن". أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة. وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر، وقيل: قتل من قريش أربعة وعشرون، ومن هذيل أربعة، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة، وهم سلمة بن الميلاء الجهني، وكرز بن جابر المحاربي ـ نسبة إلى محارب بن فهر ـ وخنيس بن خالد الخزاعي. أخو أم معبد، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس: قد علمت بيضاء من بني فهر نقية اللون نقية الصدر
* لأضربن اليوم عن أبي صخر * وفيه نقل الحركة في الوقف، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله: * وزعم ابن قيس أن سيحفدا نساءهم خلته وأنشدا * إن يقبلوا اليوم فمالي عله هذا سلاح كامل وأله * * وذو غرارين سريع السله وشهد المأزق فيه حطما رمزبب من قومه فانهزما * وجاء فاستغلق بابها البتول فاستفهمته أينما كنت تقول * فقال والفزع زعفر دمه إنك لو شهدت يوم الخندمه * إذ فر صفوان وفر عكرمه وبو يزيد قائم كالمؤتمه * واستقبلتنا بالسيوف المسلمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه * يقطعن كل ساعد وجمجمه ضربا فلا تسمع إلا غمغمه * * * لم تنطقي باللوم أدنى كلمه * وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة. * ومصداقه في الصحيح كما تقدم. * ومنها: أيضًا؛ أن أم هانىء، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلًا، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء"، وفي لفظ عنها: لما كان يوم فتح مكة، أجرت رجلين من أحمائي، فأدخلتهما بيتًا؛ وأغلقت عليهما بابًا، فجاء ابن أمي عليَّ، فتفلت عليهما بالسيف" فذكرت حديث الأمان وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء" وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح. وقصتها ثابتة في الصحيح. فإجارتها له، وإرادة علي رضي الله عنه قتله، وإمضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم إجارتها: صريح في أنها فتحت عنوة. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر بقتل مقيس بن صبابة، وابن خطل، وجاريتين. ولو كانت فتحت صلحًا، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح. وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر: ثابت عنه صلى الله عليه وسلم. وفي السنن بإسناد صحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم فتح مكة، قال: أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر؛ اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" إلى غير ذلك من الأدلة. فهذه أدلة واضحة على أن مكة ـ حرسها الله ـ فتحت عنوة. وكونها فتحت عنوة: يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة. فالذي يتفق عليه جميع الأدلة، ولا يكون بينها أي تعارض: هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض، وإبقائها للمسلمين، مع ما قدمنا من الحجج، والعلم عند الله تعالى. وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة: ـ هل يجوز تملكها، وبيعها، وإيجارها؟ ـ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يجوز شيء من ذلك، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وإبراهيم، والحسن، وإسحاق. وغيرهم. وكرهه مالك ـ رحمه الله ـ. وأجاز جميع ذلك الشافعي، وأبو يوسف. وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم.. وتوسط الإمام أحمد، فقال: تملك، وتورث، ولا تؤجر، ولا تباع، على إحدى الروايتين، جمعًا بين الأدلة، والرواية الثانية كمذهب الشافعي. وهذه المسألة: تناظر فيها الإمام الشافعي، وإسحاق بن راهويه في مسجد الخيف ـ والإمام أحمد بن حنبل حاضر ـ فأسكت الشافعي إسحاق بالأدلة، بعد أن قال له: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بفرك أذنيه، أنا أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال طاوس، والحسن، وإبراهيم، وهل لأحد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة؟ ـ في كلام طويل ـ. ونحن نذكر إن شاء الله أدلة الجميع، وما يقتضي الدليل رجحانه منها. فحجة الشافعي ـ رحمه الله ـ ومن وافقه بأمور. الأول: حديث أسامة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما سأله. أين تنزل غدًا؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟" وفي بعض الروايات "من منزل"، وفي بعضها "منزلًا" أخرج هذا الحديث البخاري في كتاب "الحج" في باب "توريث دور مكة، وشرائها" الخ وفي كتاب "المغازي" في غزوة الفتح في رمضان في باب أين ركز النَّبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي كتاب الجهاد في باب "إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون فهي لهم" وأخرجه مسلم في كتاب "الحج" في باب "النزول بمكة للحاج وتوريث دورها. بثلاث روايات هي مثل روايات البخاري. فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المتفق عليه: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" صريح في إمضائه صلى الله عليه وسلم بيع عقيل بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ تلك الرباع. ولو كان بيعها، وتملكها لا يصح لما أقره النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يقر على باطل بإجماع المسلمين. الثاني: أن الله تبارك وتعالى أضاف المهاجرين من مكة ديارهم، وذلك يدل على أنها ملكهم في قوله: قال النووي في (شرح المهذب): فإن قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكنى، لقوله تعالى: فالجواب: أن حقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولذلك لو قال: هذه الدار لزيد حكم بملكها لزيد، ولو قال: أردت به السكنى واليد، لم يقبل. ونظير الآية الكريمة: ما احتج به أيضًا. من الإضافة في قوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" الحديث. وقد قدمنا أنه في (صحيح مسلم). الثالث: الأثر المشهور في سنن البيهقي وغيره. "أن نافع بن الحارث، اشترى من صفوان بن أمية، دار السجن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، بأربعمائة". وفي رواية "بأربعة آلاف"، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة. وروى الزبير بن بكار والبيهقي: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه، باع دار الندوة بمكة من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف، فقال له عبد الله بن الزبير: يا أبا خالد بعت مأثرة قريش وكريمتها، فقال: هيهات ذهبت المكارم فلا مكرمة اليوم إلا الإسلام، فقال: اشهدوا أنها في سبيل الله تعالى يعني الدراهم التي باعها بها. وعقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه عمود النسب بقوله يعني قصيًا: واتخذ الندوة لا يخترع في غيرها أمر ولا تدرع جارية أو يعذر الغلام إلا بأمره بها يرام وباعها بعد حكيم بن حزام وأنبوه وتصدق الهمام سيد ناديه بكل الثمن إذ العلى بالدين لا بالدمن الرابع: أنها فتحت صلحًا، فبقيت على ملك أهلها، وقد قدمنا ضعف هذا الوجه. الخامس: القياس، لأن أرض مكة أرض حية ليست موقوفة، فيجوز بيعها قياسًا على غيرها من الأرض. واحتج من قال: بأن رباع مكة لا تملك ولا تباع. بأدلة: منها قوله تعالى: ومنها قوله تعالى: ومنها: ما أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة مناخ لا تباع رباعها، ولا تؤجر بيوتها". ومنها: ما رواه أبو حنيفة، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها". ومنها ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ألا نبني لك بيتًا أو بناء يظلك من الشمس؟ قال: "لا. إنما هو مناخ من سبق إليه" أخرجه أبو داود. ومنها: ما رواه البيهقي، وابن ماجه، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة تدعى السوائب، لم تبع رباعها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. ومنها: ما روى عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: "منى مناخ لمن سبق". قال النووي في (شرح المهذب) في الجنائز، في "باب الدفن" في هذا الحديث، رواه أبو محمد الدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم، بأسانيد جيدة من رواية عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي: هو حديث حسن. وذكر في البيوع، في الكلام على بيع دور مكة، وغيرها من أرض الحرم: أن هذا الحديث صحيح. ومنها: ما رواه عبد الرزاق بن مجاهدعن ابن جريج، قال: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، وأخبرني أن عمر بن الخطاب، كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره، سهيل بن عمرو، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك، فقال. أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرًا، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري، فقال: ذلك لك إذن. وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر بن الخطاب، قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي حيث يشاء. اهـ، قاله ابن كثير: إلى غير ذلك من الأدلة. قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: أقوى الأقوال دليلًا فيما يظهر قول الشافعي ومن وافقه، لحديث أسامة بن زيد المتفق عليه، كما قدمنا، وللأدلة التي قدمنا غيره، ولأن جميع أهل مكة بقيت لهم ديارهم بعد الفتح يفعلون بها ما شاءوا من بيع، وإجارة، وغير ذلك. وأجاب أهل هذا القول الصحيح عن أدلة المخالفين. فأجابوا عن قوله: وقال البيهقي في السنن الكبرى: إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي، واختلف عليه فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا ببعض معناه، وعن حديث عائشة رضي الله عنها. بأنه محمول على الموات من الحرم. قال النووي: وهو ظاهر الحديث. وعن حديث أبي حنيفة: بأنه ضعيف من وجهين: أحدهما: تضعيف إسناده بابن أبي زياد المذكور فيه. والثاني: أن الصواب فيه عند الحفاظ أنه موقوف على عبد الله بن عمر وقالوا: رفعه وهم قاله: الدارقطني، وأبو عبد الرحمن السلمي، والبيهقي. وعن حديث عثمان بن أبي سليمان بجوابين: أحدهما: أنه منقطع، كما قاله البيهقي. الثاني: ما قال البيهقي أيضًا، وجماعة من الشافعية، وغيرهم: أن المراد في الحديث: الإخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم بالإعارة تبرعًا، وجودًا. وقد أخبر من كان أعلم بشأن مكة منه عن جريان الإرث، والبيع فيها. وعن حديث "منى مناخ من سبق" بأنه محمول على مواتها، ومواضع نزول الحجيج منها. قاله النووي اهـ. واعلم أن تضعيف البيهقي لحديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وحديث عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة تعقبه عليه محشيه صاحب (الجواهر النقي)، بما نصه: "ذكر فيه حديثًا في سنده إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، فضعف إسماعيل، وقال عن أبيه غير قوي، ثم اسنده من وجه آخر، ثم قال: رفعه وهم، والصحيح موقوف قلت: أخرج الحاكم في (المستدرك) هذا الحديث من الوجهين اللذين ذكرهما البيهقي، ثم صحح الأول، وجعل الثاني شاهدًا عليه، ثم ذكر البيهقي في آخره حديثًا عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة. ثم قال: هذا منقطع. قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بسند على شرط مسلم، وأخرجه الدارقطني وغيره، وعلقمة هذا صحابي. كذا ذكره علماء هذا الشأن، وإذا قال الصحابي مثل هذا الكلام. كان مرفوعًا على ما عرف به، وفيه تصريح عثمان بالسماع عن علقمة، فمن أين الانقطاع؟ اهـ كلام صاحب (الجوهر النقي). قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ لا يخفى سقوط اعتراض ابن التركماني هذا على الحافظ البيهقي. في تضعيفه الحديثين المذكورين. أما في الأول: فلأن تصحيح الحاكم ـ رحمه الله ـ لحديث ضعيف لا يصيره صحيحًا. وكم من حديث ضعيف صححه الحاكم ـ رحمه الله ـ وتساهله ـ رحمه الله ـ في التصحيح معروف عند علماء الحديث، وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي قد يكون للمناقشة في تضعيف الحديث به وجه. لأن بعض العلماء بالرجال وثقه وهو من رجال مسلم. وقال فيه ابن حجر، في (التقريب): "صدوق لين الحفظ"، أما ابنه إسماعيل فلم يختلف في أنه ضعيف. وتضعيف الحديث به ظاهر لا مطعن فيه. وقال فيه ابن حجر في (التقريب). ضعيف، فتصحيح هذا الحديث لا وجه له. وأما قوله في اعتراضه تضعيف البيهقي لحديث الثاني. فمن أين الانقطاع فجوابه: أن الانقطاع من حيث إن علقمة بن نضلة تابعي صغير، وزعم الشيخ ابن التركماني، أنه صحابي غير صحيح، وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب). علقمة بن نضلة ـ بفتح النون وسكون المعجمة ـ المكي، كناني. وقيل: كندي تابعي صغير مقبول، أخطأ من عده في الصحابة، وإذن فوجه انقطاعه ظاهر، فظهر أن الصواب مع الحافظ البيهقي، والنووي وغيرهما في تضعيف الحديثين المذكورين. ولا شك أن من تورع عن بيع رباع مكة، وإيجارها خروجًا من الخلاف، أن ذلك خير له، لأن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
|